أن تكتب رواية يعني أن تكون ناضجاً بما يكفي للإلمام بالتفاصيل التي ستسردها في نصَّك.
قد لا أعني بذلك النضج العمري المقاس بسنوات العمر، وإنَّما نضج الذاكرة والرؤى، لعلهما العامل الأهم في كتابة نصٍّ سيكون فيما بعد مصدر إلهام أو خبرة لمن سيقرأ تلك الرواية.
من هذا المنطلق أعترف أنَّني تأخرت كثيراً حتى حان وقت قطاف ثمرات النضج في ذاكرتي، التي كانت العامل الأهم في كتابة روايتي الأولى (الزفير الحار).
كتبتها بعد إصدار العديد من المجموعات القصصية، والدواوين الشعرية، التي أعتقد أنها كانت مدخلا أو تمهيداً لكتابة رواية، بل كان لابد لأدواتي أن تنضج، لئلا أنتج نصَّاً مملاً وهزيلا، يحيك النقاد نسيج دراساتهم بموجبها، ليوقفوا مسيرة الكتابة لدي.
رواية “#الزَّفير الحار#” أخذت مني الوقت الكافي بالرغم من عدد صفحاتها القليلة، بالمقارنة مع روايات ضخمة بعدد الصفحات، لأنَّني على يقين أنَّ مكمن النَّص لا يكون بالحجم، أو بتلك التفاصيل التي تبعث على الملل، أو بالسرد الرتيب، بقدر ما أن نضوج النَّص يتعلق بما ستضيفه هذه الرواية أو تلك على القارئ في كل مكان.
دأبت لدى كتابة “الزفير الحار” على دفع كل قارئ ليعتبر نفسه البطل الذي يحمل أعباء الرواية على ظهره.
أن يشعر القارئ أنَّه تلك الشخصية المحورية، وأنَّه هو من يعيش تلك الفترة من الزمن، بين دفتي الكتاب بالنسبة لي، سيكون ذلك النص قد بلغ مبتغاه، خاصة إذا كانت تلك الرواية تحكي أحداثاً واقعية، أو هي سيرة لشخص ما من لحم ودم لايزال يمضي بحياته كيفما اتفق، ولكن تجربته المثيرة قد حفَّزت كاتباً ما لطرحها من خلال كتاب.
شخصية أبو سمير البطل في رواية “الزفير الحار” إنَّما هي شخصية حقيقية تعيش الآن في دولة أوروبية، بعدما ضاق ذرعا بمسقط رأسه كغيره من السوريين الذين غادروا دون وجهة، إلا أنَّ الفارق كان أن أبا سمير تعرَّض لما تعرّض له قبل الثورة السورية بسنين طويلة، الأمر الذي يضعنا على حافة اليقين أنني تنبأت بالثورة قبل حدوثها، وهذا ما صرح به الكثير من القراء، فقالوا عنها رواية النبوءة.
استفزتني شخصية ذلك الرجل لدى أول لقاء به مع بعض الأصدقاء الذين كنَّا نتشارك ذات الأفكار وذات المواقف من النظام السوري، ولأنني كنت أهيئ ذاكرتي منذ مدة طويلة لكتابة رواية، وجدتني أطرح عليه الفكرة بأن يكون بطلاً لرواية لم أكتبها، ولكنَّني عازمة على الخوض فيها كتجربة أولى.
كل القصص التي كتبتها في مجموعاتي القصصية الخمس كانت رواية من نمط الشيفرة التي إذا ما أتيح لأسوارها التحطم لانفرجت عن رواية ما، لذا لم أفقد الأمل في كتابة رواية، وأن روايتي الأولى ستكون قصيرة في 126 صفحة وتنال تلك الحظوة عند القراء، ليخبرني كمٌّ هائل من القراء أنَّهم قرؤوها عشر مرات، وأنَّهم يرغبون في إعادة قراءتها، لأنَّها الرواية التي غيرت حياتهم وفتحت بصيرتهم على عالم كانون عنه غافلين.
بالرغم من أنني بدأت بكتابة القصة، ولكنني كنت روائية في قرارة ذاتي، لم أنفكّ أدأب على كتابة قصة قصيرة سليلة الرواية، في معظم ما كتبته من قصة أو شعر أو رواية كنت أبدأ دون سابق تحضير، للحظة كانت الفكرة تومض فأبدأ بكتابة مقدمة تليق بالفكرة، وهذا كان حال “الزفير الحار” التي دهمتني مقدمتها بينما كنت جالسة في غرفة الجلوس أتصفح بعض الكتب التي كانت قد وصلتني حديثاً من أحد الأصدقاء برسم الاستعارة.
كنت قبلها قد أجريت الكثير من الحوارات واللقاءات مع أبي سمير؛ الاسم المستعار لرجل حقيقي من لحم ودم، ليحدثني عن تجربته في السجن حينما تمَّ اعتقاله في عهد حافظ الأسد بتهمة انخراطه في صفوف حزب العمل الشيوعي؛ الذي كان محظوراً آنذاك، وربما حتى الآن لا أدري!
سيرة أبو سمير ليست مجرد سيرة لسجين أو لمعتقل، بينما هي سيرة إنسان قادر على المضي بحياته بشكل إيجابي، بالرغم من فداحة المكان، وصعوبة الظروف التي أحيطت به في عالمه المعزول عن الحياة، سيرة إنسان وظَّف ذلك المكان للصالح العام، لتهيئة كوادر إنسانية حينما يتم الإفراج عنها ستكون جاهزة للبدء مجدَّداً دون أية معوقات، أو اضطرابات نفسية لحقت به نتيجة الاعتقال ومآلاته، علماً أن الرواية صنِّفت ضمن أدب السجون.
أما بالنسبة لقصص النساء اللواتي سردتهن لأبي سمير، لألعب دور شهرزاد التي كانت تحكي أقاصيصها وحكاياتها لشهريار لتعتق رقبتها من القطع، فقد كانت هي الأخرى وسيلتي لربط أبو سمير بي لئلا يتركني في منتصف الطريق، وقد ضاق ذرعا بالبوح، تلك القصص كانت الحبل السري الذي ربطني بأبي سمير، من خلالها كنا نتبادل الأدوار، هو يقدم لي حياته في السجن، وأنا أحكي له عن نساء التقيتهن في السجن بينما كنت أعمل على بحث طويل عن سيكولوجيا الجريمة عند المرأة، البحث الذي تم إجهاضه من قبل إحدى الفروع الأمنية، بالرغم من ذلك فقد آثرت أن أبقي على حياة تلك النسوة ضمن الأشرطة المسجلة، وفي دفتري الخاص بهن ريثما أجد لها منفذاً أخرجها إلى النور، وذلك كان من خلال رواية “الزفير الحار”، أحدثت بذلك مواءمة ما بين نوعين من حيوات السجناء، أبو سمير الذي كان نموذجاً للرجل المعتقل سياسياً، وتلك النسوة المدانات بشتى أنواع الجرائم الاجتماعية (السرقة- القتل- الدعارة…).
أخشى أنَّني فشلت في سرد حكاية روايتي الأولى، ولكنَّني على يقين تام بأنَّها كانت الأساس الذي ارتكزت عليه باقي رواياتي، أساساً أعتقده غاية في المتانة، الأمر الذي أوقف مسيرة القصة القصيرة لدي، وخفت معه صوت الشعرأيضاً لأكتب الرواية فقط.
* روائية وقاصّة وشاعرة كردية سورية مقيمة في ألمانيا.[1]
الرواية نت – خاصّ.