=KTML_Bold=شمال وشرق سوريا.. نواة الوطن السوري الجديد=KTML_End=
أكرم بركات (صحفي)
في ظل الأزمة السوريّة المستمرة منذ أكثر من عقد، تتكشّف يوماً بعد يوم ملامح خطيرة لخطاب الكراهية الذي تتبنّاه الحكومة الانتقالية، والذي بات يشكّل تهديداً مباشراً للنسيج المجتمعي السوري. هذا الخطاب، المتغذّي على التحريض الطائفي والتفرقة بين الشعوب، تجاوز كونه رأياً سياسياً ليغدو أداة لتفتيت المجتمع وإشعال الفتن، كما شهدنا مؤخراً في مناطق الساحل والسويداء، حيث كانت نتائجه كارثية على الاستقرار الاجتماعي.
في الوقت ذاته، تتجدد المواقف العدائية للدولة التركية تجاه مناطق شمال وشرق سوريا، عبر استهداف ممنهج لتجربة ديمقراطية فريدة نشأت في سياق إقليمي تغلب عليه أنظمة الاستبداد وسياسات الإقصاء، لقد شكّل مشروع الإدارة الذاتية، القائم على التعددية المجتمعية والمشاركة الشعبية، نموذجاً متقدّماً في بناء سلطة مدنية تستوعب مختلف الشعوب، ما جعله يشكّل تحدياً سياسياً وأيديولوجياً لبعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، التي ترى فيه تهديداً لبنية الهيمنة التقليدية ومصالحها الجيوسياسية.
تعكس التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، مستوى غير مسبوق من التدخل في الشأن السوري، إذ جاءت بلهجة توحي وكأنه ينطق باسم دمشق لا أنقرة، لا سيما ما يتعلق باتفاق العاشر من آذار. هذا الاتفاق، الذي يُفترض أن يشكل إطاراً للتفاهم بين الأطراف السورية، تحوّل في الخطاب التركي إلى أداة سياسية تُستخدم لتوجيه الاتهامات إلى قوات سوريا الديمقراطية، في محاولة واضحة لتقويض شرعيتها. غير أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن الطرف الذي لم يلتزم ببنود الاتفاق هو الحكومة الانتقالية، التي سارعت إلى نسف الاتفاق بعد 48 ساعة فقط من توقيعه، عبر إعلان “الإعلان الدستوري” الذي يتعارض جذرياً مع نص الاتفاق، دون اتخاذ أي خطوات عملية لتنفيذه، هذا التوظيف السياسي يكشف حجم التقاطع بين أنقرة وبعض القوى السورية، ويعكس توجهاً نحو إعادة إنتاج الوصاية، بدلاً من بناء تفاهم وطني حقيقي.
في المقابل، تواصل قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية جهودها في ترسيخ نموذج سياسي واجتماعي مستقر، رغم التحديات الأمنية والاقتصادية، ورغم حملات التشويه الإعلامي التي تُشن عبر منصات مقربة من الحكومة الانتقالية؛ بهدف قلب الحقائق وتضليل الرأي العام، هذا التضليل لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي الأوسع، حيث تسعى تركيا إلى تقويض أي تجربة ديمقراطية على حدودها، خشية أن تُشكل نموذجاً يُحتذى به في الداخل التركي. كما أن هذا الخطاب المتقاطع مع الحكومة الانتقالية يعكس محاولة لتشكيل جبهة سياسية موحدة ضد مشروع الإدارة الذاتية، في ظل غياب رؤية وطنية جامعة تُعلي من مصلحة السوريين كافة.
إن استمرار هذا النهج العدائي، سواء عبر التصريحات السياسية أو الحملات الإعلامية، لا يخدم مسار الحل السياسي في سوريا، بل يعمّق الانقسامات ويُضعف فرص بناء دولة ديمقراطية تعددية. المطلوب اليوم هو خطاب عقلاني يعترف بالتعددية، ويؤسس لحوار حقيقي بين الشعوب السورية، بعيداً عن الإملاءات الخارجية والتوظيف السياسي الضيق.
منذ انطلاقتها، لم تكن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا مجرّد تجربة محلية أو رد فعل على فراغ سياسي، بل جاءت كاستجابةٍ تاريخية لحاجة السوريين إلى نموذج حكم يضمن العدالة والمشاركة، ويكسر احتكار السلطة الذي طبّع الدولة السورية لعقود.
لقد أثبتت هذه الإدارة، من خلال بنيتها التشاركية ومؤسساتها المدنية، أنها تمثل ضمانة حقيقية لوحدة البلاد، لا تهديداً لها، لأنها تنطلق من مبدأ الاعتراف بالتعددية المجتمعية، وتُعلي من شأن المواطنة على حساب الانتماءات الضيقة.
ما يميز هذا النموذج ليس فقط بنيته الإدارية، بل تضحيات أبنائه الذين امتزجت دماؤهم في مواجهة الإرهاب، من داعش إلى المجموعات المتطرفة المدعومة خارجياً، هذه المقاومة لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت دفاعاً عن قيم مدنية، وعن حق المجتمعات في تقرير مصيرها ضمن إطار وطني جامع.
من هنا؛ فإن الإدارة الذاتية لا تمثل انفصالاً عن سوريا، بل هي نواةٌ لنظام لا مركزي ديمقراطي يمكن أن يشكّل أساساً لسوريا الجديدة، سوريا التي تُبنى على دستور يكتبه السوريون جميعاً، لا يُفرض عليهم من الخارج أو من غرف مغلقة. إن الوطن الذي ننشده لا يمكن أن يُبنى على الإقصاء أو الهيمنة، بل على عقد اجتماعي جديد، يُترجم في دستور يشارك في صياغته كل السوريين، ويُكرّس الحقوق والحريات، ويضمن التوازن بين المركز والأطراف. كما أن الجيش الوطني المنشود يجب أن يكون انعكاساً لهذا التعدد، يضم أبناء كل الشعوب، ويكون حامياً للشعب وحدوده، لا أداةً للقمع أو التمييز، هذا التصور لا يتناقض مع وحدة سوريا، بل يعيد تعريفها على أسس أكثر عدالة واستقراراً.
تبرز منطقة شمال وشرق سوريا كنموذج فريد يسعى إلى إعادة تشكيل مفهوم الوطن السوري على أسس جديدة من التعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هذه المنطقة، التي احتضنت شعوب متنوعة من العرب والكرد والسريان وغيرهم، استطاعت أن تؤسس تجربة إدارية وسياسية تتجاوز الانقسامات التقليدية، وتضع أسساً لوطن جامع يحترم التنوع ويعزز المشاركة الشعبية. من هنا، يمكن اعتبار شمال وشرق سوريا نواة الوطن السوري الجديد، ليس فقط من حيث الجغرافيا، بل من حيث الرؤية التي تحملها لمستقبل سوريا كدولة مدنية ديمقراطية تحتضن جميع أبنائها دون إقصاء أو تهميش. [1]