=KTML_Bold=الاندماج الديمقراطي والأمل المشرق في سوريا الجديدة=KTML_End=
د. طه علي أحمد
مع احتدام الأزمة السياسية التي تعيشها سوريا وتجذُّر أبعادها في عُمق البنية المجتمعية، تبرز الحاجة للبحث المتواصل في نموذج أفضل للتعامل مع تلك الأزمة المركبة، وهنا يبرز نموذج “الاندماج الديمقراطي” الذي يقدمه المفكر عبد الله أوجلان، لاسيما وأن الطرح الذي يقدمه في إطار هذا النموذج ينبع من عُمق بيئة شرق أوسطية مُغايرة للقوالب الغربية التي لطالما اعتمدتها الدولة القومية التي شكلت واقع الشرق الأوسط على مدار القرن العشرين، بل لعلنا لا نبالغ أن فلسفة تلك الدولة القومية قد أسهمت بعُمْق في تجذر الأزمة المركبة التي تتخبط بين جوانبها المنطقة في الوقت الحالي.
وبوصفها نموذجًا مستوردًا من الحداثة الغربية، قامت الدولة القومية على مركزية اللغة، والدين، والثقافة الواحدة، ما جعلها مشروعًا إقصائيًا يمنع اندماج الشعوب المتعددة داخلها، ولهذا يُعد هذا النموذج سببًا رئيسيًا في فشل مساعي الاندماج في المنطقة كونها تعزز في غالبيتها التمييز وقمع الهويات المختلفة. ولحل هذه الإشكالية، تجد شعوب المنطقة بكافة مستوياتها (سياسيين، ومجتمع مدني، وباحثين ومفكرين …إلخ) مضطرين للانفتاح على مفهوم “الأمة الديمقراطية” الذي يطوره المفكر عبد الله أوجلان استناداً على عدة ركائز =KTML_Bold=أساسية أبرزها:=KTML_End=
الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية واللغوية.
إشراك جميع المكونات المجتمعية في الحياة السياسية بشكلٍ مباشر.
تجاوز مفهوم السيادة القومية لصالح الحكم الذاتي المحلي والمجالس المجتمعية.
إعادة النظر في مكانة المرأة بالثقافة العامة لشعوب المنطقة بما يدفعها للصدارة في كافة الميادين، وهو ما يُعَدُّ شرطًا أساسيًا لبناء مجتمع ديمقراطي حقيقي، حيث لا يرى القائد عبد الله أوجلان فرقاً بين الاضطهاد القومي والاضطهاد “الجندري”، بما يضع في قلب رؤية القائد أوجلان للاندماج الديمقراطي.
بنظرة فاحصة لهذه الركائز نجد هذا النموذج يدور في فلك الديمقراطية القاعدية (Bottom-Up Democracy)، كونه يتأسَّس من خلال المجالس المحلية واللجان الشعبية كسلسالٍ تراكمي للقرار السياسي، بدلاً من النخبة المركزية التي يقوم عليها النموذج القومي، بل إن هذه البنية القاعدية تتيح لكل جماعة عرقية أو دينية أو ثقافية أن تكون ممثلة وقادرة على المشاركة دون إقصاء. هنا يُثار تساؤل نراه ضروري للتأكيد على مدى ملائمة نموذج “الاندماج الديمقراطي” لحل إشكالات وقضايا معاصرة لا يعيشها السوريون فحسب، بل تتغلغل في مفاصل الشرق الأوسط بشكلٍ عام. ولنأخذ معاناة الدروز والعلويين في سوريا – على سبيل المثال – فكلاهما يمثل جماعات ذات خصوصية ثقافية دينية متميزة ضمن النسيج المتنوع للمجتمع السوري، وقد تأرجح تعامل الدولة القومية معهم بين التهميش، والشك، والتجاهل وصولًا للاستغلال السياسي. ولمعالجة مثل هذه الإشكالية، يفترض الاندماج الديمقراطي تفكيكاً سَلِسًا للمنطق الإقصائي الذي تقوم عليه الدولة القومية، والذي تجد فيه الشعوب غير المهيمنة على السلطة مقهورة، لننتقل إلى منطق “الأمة الديمقراطية” الذي لا يقتصر التعايش في إطاره على التجانس بل على التعدد والتنوع المشروعين، ما يجعل العلويين والدروز شعوب أصلية وليست “أقليات” تنتظر الحماية أو التفاوض على الحقوق. في هذا الإطار، تُفرَض هوية دينية أو ثقافية واحدة، بل يُعتَرف بكل المعتقدات كمكونات شرعية للمجتمع، ليجد الدروز والعلويون وغيرهم يعاملون كجماعاتٍ ثقافية روحية، ذات تراث وفكر مستقل، ويُمنحون الحق في التعبير عن ذلك بحرية.
بطبيعة الحال، لا يمكن تصور ذلك في إطار مركزي مهيمن، الأمر الذي يفرض الحاجة لنموذج “الإدارة المجتمعية الذاتية” اللامركزي، بما لا يعني الانفصال، بقدر ما يرسخ التشاركية في إدارة شؤون المجتمع من خلال إشراك ممثلين حقيقين عن هذه المكونات المجتمعية وغيرها في المجالس المجتمعية والبلدية والإقليمية من دون وصاية من النخب الحاكمة أو القوى الأمنية، وهنا تتحول المشاركة من مجرد “تعيين رمزي” إلى دور فاعل في صنع القرار، ولعل في ذلك ما يضمن تحالفات مجتمعية عابرة للطوائف، الأمر الذي يخلق مناعة جماعية ضد الطائفية والانقسامات التي تُعيد إنتاج القمع.
بعبارةٍ أخرى، فمع تشكل هذا المجتمع الشبكي المستند على نموذج سياسي أخلاقي نكون بصدد ديناميكية جديدة تعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة بطريقة تقلل من احتمالات الانفجار؛ لاسيما وأن ذهنية الدولة وسلطويتها المركزية المتجذرة في الشرق الأوسط بشكلٍ عام تكون قد تفككت لتحل محلها ذهنية سياسية أخلاقية تستند على التعايش وقبول الآخر. بالتالي، وفي ظل هذا النموذج، فبدلاً من أن تكون هذه الهويات أدوات للصراع، والإقصاء، أو السيطرة السياسية، كما هو الحال في واقع الأحادية القومية والطائفية المُشَكِّلة لخريطة أزمات الشرق الأوسط، فإنها – أي الهويات – تُعاد إلى موقعها الطبيعي كجزء من نسيج اجتماعي متنوّع ومتكامل، إذ تصبح كل هوية جزءًا من الفضاء العام دون الحاجة إلى القتال من أجل الاعتراف، أو السعي للهيمنة، لتصبح الهويات الثقافية والانتماءات الدينية والمتعددة فاعلة بشكل إيجابي، تشارك في تشكيل السياسات المحلية والثقافية والتعليمية، بدلاً من أن تُختزل إلى شعارات تستخدمها النخب.
الغاية إذن، فإنه بدلاً من السعي لصهر الهويات أو فرض مركزية ثقافية ودينية واحدة، يقدم “الاندماج الديمقراطي” مقاربة تعترف بالتعدد وتُفعّل المشاركة القاعدية، واضعًا أسسًا جديدة لمجتمع سياسي يدار من القاعدة إلى القمة، وليس العكس، بما يحافظ على الخصوصية المُمَيِّزة لكافة مكونات المجتمع، إذ لا يلغيها، بل يُعاد تعريف موقعها لتتحول من أدوات صراع وهيمنة إلى روافد غنى ثقافي وسياسي داخل الفضاء المجتمعي الديمقراطي. لكن، هل هذا يعني أن نموذجًا مثل “الاندماج الديمقراطي” لن تقابله عثرات أو تحديات؟! للإجابة على هذا التساؤل فإنه رغم قوى الدفع التي ينطوي عليها هذا النموذج كما أوضحتها السطور السابقة وغيرها مما يضيق المجال لذكره، إلا أن عددًا من التحديات المتجذرة في البنية الذهنية لكافة مستويات الحياة في الشرق الأوسط سياسياً واجتماعياً… إلخ تفرض نفسها كعثرات صعبة، وإن كانت غير مستحيلة، في طريق الاندماج الديمقراطي، وهو ما نسعى لتفكيكه في المقال القادم. [1]