تجليات التصوف في الشعر الكردي: دراسة في رمزية الحب الإلهي
الأسس الصوفية في الشعر الكردي القديم
يُعَدّ التصوف أحد أهم المكونات الفكرية والروحية في الثقافة الكردية، وقد ترك بصمته العميقة على الأدب، خصوصًا الشعر. فالشعر الكردي الكلاسيكي لم يكن مجرد تعبير فني عن المشاعر الإنسانية، بل كان ميدانًا لتجسيد التجربة الصوفية في أرقى صورها. ومن خلال رمزية الحب الإلهي، استطاع الشعراء أن يعبّروا عن توق الإنسان إلى الاتحاد بالمطلق، وعن سعيه لتجاوز حدود الجسد والواقع نحو فضاء أسمى.
تتجلى البدايات الصوفية في شعر ملا جزيري (القرن السادس عشر)، الذي يُعتبر أحد أعمدة الأدب الكردي الكلاسيكي. ففي قصائده نجد حضورًا واضحًا لمفاهيم مثل العشق الإلهي، والفناء في الله، والوجد الروحي. يقول جزيري في إحدى قصائده:
عشق خالق رهِمَتِه نابهيت بە پايان
دڵ خستهم، تۆ دووای دردي ناوهيت درمان
أي: حب الخالق لا تنتهي رحمته، قلبي المرهق لا يجد دواءً إلا بك.
هذا النص يختصر طبيعة التجربة الصوفية القائمة على الوجد، والبحث عن الله من خلال الألم والصفاء.
كما يظهر التصوف بوضوح في شعر فقي تيران (القرن السابع عشر)، الذي جمع بين النزعة الفلسفية والرؤية الروحية. استخدم فقي تيران رمزية الحب والجمال للتعبير عن العلاقة بين العاشق (الإنسان) والمعشوق (الله)، مستعينًا بصور الطبيعة والضوء والوردة كرموز للذات الإلهية. هذه الرموز كانت جزءًا من التراث الصوفي المشترك في الشرق الإسلامي، لكنها في الشعر الكردي اكتسبت طابعًا محليًا مرتبطًا بجبال كردستان وطبيعتها.
لم يكن التصوف في الشعر الكردي مجرد تقليد للفكر الإسلامي العام، بل تجربة خاصة نابعة من بيئة جبلية قاسية، حيث وجد الإنسان الكردي في الروحانية وسيلة للتحرر من القيود المادية والسياسية. ولذلك، أصبح الشعر الصوفي الكردي وسيلة للمقاومة الروحية في مواجهة الظلم، كما أنه ساهم في ترسيخ قيم التسامح والمحبة، التي شكلت جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية الكردية.
إضافة إلى ذلك، ساعدت الزوايا والخانقاهات الكردية (خاصة النقشبندية والقادرية) على نشر الفكر الصوفي وتعليمه من خلال الشعر. فالكلمة الشعرية كانت وسيلة للوصول إلى القلب، ولإيصال المعنى الباطني الذي يصعب شرحه نثريًا.
إن الشعر الكردي القديم إذن كان مرآةً للتجربة الصوفية بكل عمقها وسموّها. ومن خلاله، تشكّلت لغة رمزية معقدة جمعت بين الفلسفة والروح، فحوّلت الحب الإلهي من مفهوم غيبي إلى تجربة إنسانية حيّة.
مراجع:
1. ملا أحمد الجزيري، ديوان ملا جزيري، تحقيق: محمد خليل، دار آفستا، إسطنبول، 2002.
2. خليل جندي، التصوف في الأدب الكردي الكلاسيكي، دار ئاراس، أربيل، 2010. [1]