التقعيد الأكاديمي للغة الكردية
مع بداية القرن العشرين، دخلت اللغة الكردية مرحلة جديدة من تطورها، حيث بدأت محاولات جادة لتقعيدها (Codification) وإدخالها في المجال الأكاديمي. بعد أن كانت حاضنة أساسها التراث الشفهي، انتقلت الكردية إلى طور التدوين والبحث العلمي، مستفيدة من انتشار الطباعة، وظهور الصحافة الكردية، وبروز حركة المثقفين الذين سعوا إلى تطوير قواعدها النحوية والمعجمية.
أولى المحاولات المهمة جاءت عبر الصحافة الكردية المبكرة مثل جريدة كردستان التي صدرت عام 1898 في القاهرة على يد مقداد مدحت بدرخان. هذه الجريدة لم تكن مجرد وسيلة إعلامية، بل منبرًا لتثبيت اللغة كتابةً وتحريرًا، وإعادة صياغتها كأداة حديثة للتواصل. لاحقًا ظهرت جهود رواد مثل جلادت بدرخان، الذي وضع أسس الأبجدية اللاتينية للكردية (الكرمانجية الشمالية) في ثلاثينيات القرن العشرين، وهو إنجاز بالغ الأهمية جعل الكتابة أكثر انتظامًا وسهولة للنشر.
إلى جانب الأبجدية، ظهرت دراسات أكاديمية ركّزت على قواعد اللغة، مثل كتاب قواعد اللغة الكردية لجكرخوين وعبد الله كوران، ثم جهود خليل جندي، إسماعيل بيكس، وأمين زكي بك، الذين أسسوا لبنية نحوية ومعجمية متماسكة. هذه الجهود ساعدت على نقل اللغة الكردية من فضاء الذاكرة الشفوية إلى فضاء البحث العلمي الأكاديمي.
في الجامعات، أصبح للغة الكردية حضور أوضح منذ أواخر القرن العشرين، خاصة في جامعات كردستان العراق وسوريا وتركيا وأوروبا. فقد تأسست أقسام للغة الكردية وآدابها، وأُطلقت مشاريع بحثية تهدف إلى كتابة تاريخ اللغة ودراسة لهجاتها المختلفة (كرمانجية، سورانية، هورامية، زازاكية). هذا الانفتاح الأكاديمي لم يسهم فقط في توحيد بعض القواعد، بل شجع أيضًا على التعامل مع الكردية كجزء من اللغات العالمية التي تستحق الدراسة والتطوير.
أحد التحديات الكبرى أمام التقعيد كان التنوع اللهجي الواسع. ومع ذلك، فإن المحاولات الأكاديمية لم تسعَ إلى إلغاء هذا التنوع، بل إلى صياغة قواعد مشتركة تساعد على التفاهم وتوحيد الخطاب الثقافي. وقد شكّل هذا العمل أساسًا لفكرة الوحدة ضمن التنوع، التي تعكس غنى الهوية الكردية.
كما لعبت جهود الترجمة إلى الكردية دورًا مهمًا في إثراء المعجم وتوسيع نطاق الاستعمال الأكاديمي. فقد تُرجمت نصوص فلسفية وأدبية عالمية، مما أعطى للغة أفقًا جديدًا وأتاح للكرد التواصل مع الفكر العالمي بلغتهم الأم.
بذلك، يمكن القول إنّ عملية التقعيد الأكاديمي مثّلت نقلة نوعية في تاريخ اللغة الكردية. فهي لم تقتصر على حماية اللغة من الاندثار، بل أسست لمشروع ثقافي ومعرفي يجعلها لغة قادرة على التعبير عن القضايا العلمية والفلسفية والسياسية الحديثة، لتقف إلى جانب اللغات الكبرى في العالم.
مراجع:
1. Celia Kerslake & Philip Kreyenbroek (eds.), The Kurdish Language and Literature, Routledge, London, 2005.
2. خليل جندي، تاريخ الأبجدية الكردية وتطورها، دار سبيريز، بيروت، 1997. [1]