سنان حتاحت
خلافًا للحركات الانفصالية في أوروبا التي أكدت التزامها بإطار فوق وطني حدده الاتحاد الأوروبي، آثر قادة الحراك الكردي الانغلاق على أنفسهم وزيادة عزلتهم الإقليمية.
قد يبدو للوهلة الأولى وجود رابط مباشر بين تداعي عرى الدولة القومية وصعود أحزاب الأقليات القومية في العالم، ولكن عند البحث عن قرب تظهر اختلافات جوهرية بين نتائج وأسباب إحياء الحركات الانفصالية في أوروبا والمشرق. ليس هناك علاقة عضوية بين الحركات الانفصالية الأوروبية والحركة القومية الكردية، رغم تزامن الدعوات لإجراء استفتاءات حول استقلالها، فلكل حركة سياقها المحلي والثقافي الخاص، فضلًا عن مطالب وحزمة استحقاقات مختلفة. في المقابل، ترتبط دعوى استقلال كردستان العراق ارتباطًا عضويًّا بالربيع العربي، وما نتج عنه من تداعي السلطة المركزية التي احتكرتها الدولة الحديثة العربية.
تقدم هذه الورقة مقارنة أولية بين الحركات الانفصالية الأوروبية والحركة القومية الكردية على ثلاثة صُعد: أولًا: على صعيد تشكُّل الدولة الحديثة في أوروبا وفي المشرق وعن الفرق الجوهري في صميم العقد الاجتماعي، وما ترتب عليه من احتجاج عند حدوث خلل فيه. ثانيًا: على الصعيد الاقتصادي، ودوره المحوري في تأطير المطالب الانفصالية في أوروبا وتراجع أهميته في الحالة الكردية. وثالثًا: على صعيد المشروع الإقليمي الذي تسوق له أحزاب الأقليات القومية في أوروبا وغيابه في الحالة الكردية وما نتج عنه من تراجع الدعم الإقليمي لاستقلال كردستان العراق.
الدولة الحديثة
تشكَّلت الدولة الحديثة في أوروبا والمشرق على نحوٍ قسري واعتدت على المجتمعات المحلية فيما تحاول السيطرة على جميع مناحي الحياة العامة. فالدولة الحديثة كيان مهووس بفرض سيطرته على مواطنيه، وباحتكار مصادر القوة التي يكتسب منها شرعية السلطة. ففي أوروبا، تشكَّلت حدود دولها الحديثة بعد سلسلة من الحروب البينية، وعدد من المعاهدات الإقليمية، ولم تستقر بشكلها الحالي إلا حديثًا إثر الحرب العالمية الثانية. أما على صعيد دول المشرق، فقد تشكَّلت حدودها وفق اتفاقات دولية بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تلعب المجتمعات المحلية دورًا حقيقيًّا في نشأتها.
ولكن ثمة اختلاف جوهري بين الدولة الحديثة في نسختيها الأوروبية والمشرقية حول طبيعة العقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها؛ فقد أثبتت الدولة الأوروبية مبرر وجودها من خلال وعودها بتوفير النماء المستمر، وتوفير الفرص المتساوية لجميع مواطنيها. وكان لابد أن تتدخل الدولة في إدارة الشأن العام لتعظيم عوائد التنمية وإعادة استثمارها اقتصاديًّا في تطوير مجالات الصناعة والزراعة والتجارة. ولذا، استقرت الدولة الحديثة كنموذج في المجتمعات الاستعمارية التي شهدت ثروة صناعية، فانسجمت بنيتها الإدارية والقانونية مع أولويات السوق الرأسمالية والثقافة المادية العقلانية التي أضحت النموذج الثقافي السائد لاسيما في أوروبا الغربية. في المقابل، اصطدم نموذج الدولة الحديثة عند نشأتها مع مجتمعاتها المحلية المشرقية، فتجلت طبيعتها المعتدية والمتسلطة بسلوك عدواني وتعسفي سلب الحريات العامة والفردية وهيمن على المجتمعات المحلية ومؤسساتها الأهلية. لم تظهر إشكالية الدولة الحديثة في المشرق المسلم فحسب، بل تكررت نفس التجربة مع المجتمعات الأرثوذكسية التي بقيت عصية على الثورة الصناعية ولم تتبنَّها إلا بقوة القهر والإخضاع القسري كما فعلت الثورة البلشفية والشيوعية في أوروبا الشرقية، وكذلك الأمر في جنوب شرق آسيا وإفريقيا (1).
تعبِّر معظم الحركات الانفصالية الأوروبية عن خصائص قومية محددة، وتطالب بحق تقرير المصير ونشأة كيانات مستقلة، ولكن تعتمد سرديتها السياسية على معطيات اقتصادية لإقناع حواضنها الشعبية المفترضة بالانضمام إليها ومناصرتها. تكشف هذه المشاهدة عن طبيعة المطالب القومية الضامرة التي تحيا عند حدوث خلل في صميم العقد الاجتماعي العميق الذي قامت عليه الدولة الحديثة الأوروبية (توفير الرفاهية)، وهذا ما تؤكده الموجة الأخيرة التي شهدتها أوروبا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. تختلف الحال مع الحركات الانفصالية في دول المشرق المسلم أو أوروبا الشرقية؛ فقد شهدت الأخيرة موجة حركات تحرر وطنية واستقلال مع سقوط الاتحاد السوفيتي الذي فرض سلطة الدولة الواحدة على الشعوب التي سيطر عليها بسطوة السلاح والقوة. وكذلك الأمر في المشرق المسلم حيث فشلت الدولة الحديثة في تطبيع وتبرير سلطتها المطلقة، كما أنها لم تفلح في وضع خطط إدارية ناجعة، فلم تقم كياناتها إلا من خلال سطوة الجيش والاستخبارات.
لا يمكن فصل الحركة القومية الكردية عن سياق ثورات التحرر الشعبية في المشرق، فجميعها رغم اختلافها الظاهري اعتراض على طريقة تشكُّل الدولة الحديثة العربية التي اصطدمت مع المجتمعات المحلية وسلبتها حقها الطبيعي في التعبير عن نفسها. وإذ تعبر الحركات الكردية عن مطالب قومية وثقافية محددة فإنها في جوهرها تعبير عن الظلم الذي تجرعته كافة شعوب وأمم المنطقة.
العامل الاقتصادي
برز العامل الاقتصادي كأهم مبرر للحركات الانفصالية الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة، وتحتل المظالم الاقتصادية صدارة السجال الدائر في كتالونيا وأسكتلندا على سبيل المثال لا الحصر. وتعير هذه الحركات اهتمامًا كبيرًا لقضايا العجز المالي العام، وانخفاض الاستثمار في البنية التحتية، وتراكم الديون الحكومية، وتسوقها كمبررات للمطالبة بالاستقلال بعد تأكيد جدواه الاقتصادية (2). وفيما يلي سرد لأبرز الحركات الانفصالية الأوروبية المعاصرة وسرديتها السياسية للمطالبة بالاستقلال:
1. كتالونيا: رضخ إقليم كتالونيا إبَّان الحرب الأهلية الإسبانية وحكم فرانكو الديكتاتوري إلى سلطة الحكومة المركزية في مدريد، وقد حُرم سكانه من ممارسة حقوقهم الثقافية كما حُظرت لغتهم المحلية وملابسهم التقليدية وأسماؤهم وكُناهم الأصلية. حصل الإقليم على حكم ذاتي موسع بعد عام 1979 فأضحى له برلمانه الخاص، وحكومته المحلية، بالإضافة إلى بعض الميزات الاقتصادية (3). تجدَّد الصراع مع مدريد بعد سنوات من الجمود مع توسع آثار الأزمة الاقتصادية في عام 2008؛ حيث ازداد الشعور المحلي بفداحة التضحية المادية لصالح بقية البلاد حيث يسهم الإقليم بخُمس مجمل الناتج القومي الإسباني في حين لا تتعدى نسبة سكانه السدس. فَشِلَت محاولة أولى في إجراء استفتاء على تقرير المصير في عام 2014 بسبب العراقيل القانونية التي وضعتها مدريد. وفي أعقاب الانتخابات التشريعية لعام 2015، التي حصدت فيها الأحزاب الانفصالية الأغلبية الصغرى في البرلمان الإقليمي، طالب رئيس كتالونيا الجديد، كارلوس بويغديمونت، بإجراء استفتاء جديد في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2017. لم تعترف حكومة مدريد بنتائج الاستفتاء الأخير، كما أنها وضعت الإقليم تحت إدارتها المباشرة (4).
2. أسكتلندا: يذخر المخيال الشعبي والفلكلوري الأسكتلندي بقصص البطولات المحلية في مقارعة المحتل الإنجليزي، ولكنها في الواقع جزء لا يتجزأ من المملكة المتحدة منذ اتفاقية الوحدة عام 1707، ولم تعد تمتلك بعد عصور من الاندماج مع الإنجليز خصائص ثقافية متمايزة عن بقية سكان الجزيرة البريطانية. ينطبق ذات الشيء على بلاد الغال، وإلى حدٍّ بعيد إيرلندا التي حصلت على استقلالها عام 1921 ولكن لا يتسع المجال لمناقشة حالتها الخاصة في هذا السياق. أدى انتصار الحزب القومي الأسكتلندي بالانتخاب التشريعية عام 2011 إلى تجدد المطالب الحزبية بالانفصال، ودُعي الأسكتلنديون إلى استفتاء حول حق تقرير المصير في عام 2014، بعد الاتفاق مع رئيس وزراء بريطانيا، ديفيد كاميرون، ولكنه رُفض بنسبة 55%(5). يُرجِع الخبراء سبب الرفض الشعبي إلى تعافي الاقتصادي البريطاني وإلى فشل الحزب القومي في إثبات نجاعة الاستقلال اقتصاديًّا (6). ولكن أدى نجاح استفتاء بريطانيا حول الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى إحياء المطالب الانفصالية على أسس اقتصادية هذه المرة؛ حيث تمتع الإقليم بفضل عضوية بريطانيا بمساعدات أوروبية مهمة تم استثمارها في بنيته التحتية بالإضافة إلى توفير سوق دولية لمنتجاته المحلية (7). يراقب البرلمان الأسكتلندي سير مفاوضات لندن مع بروكسل حول شكل اتفاق انسحاب بريطانيا من الاتحاد، عن كثب، ومن المقرر طرح استفتاء جديد في ربيع عام 2019 بعد انتهاء المفاوضات ودراسة نتائجها على الاقتصاد المحلي للإقليم (8).
3. كورسيكا: بلغت الحركة القومية الكورسيكية عتبة جديدة عام 2015، عندما فاز المرشحون المؤيدون للاستقلال عن فرنسا في الانتخابات الإقليمية. يُعَدُّ هذا الإنجاز السياسي خطوة مهمة في مسيرة التحول الديمقراطي للحركة القومية الكورسيكية من حركة مسلحة إلى حركة سياسية لا عنفية؛ إذ أعلنت الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا نبذ الخيار المسلح في يونيو/حزيران 2014(9). ويجدر بالذكر تخلي الحركة عن مطلب الاستقلال الكامل والسعي للاعتراف بإدارة ذاتية للجزيرة الجبلية في البحر المتوسط.
4. بلاد الباسك: اصطبغ تاريخ الباسك الحديث بأعمال منظمة إيتا المطالبة بانفصال إقليمي باسك الفرنسي والإسباني منذ عام 1959، والتي تخلت عن الكفاح المسلح عام 2011(10). وإذ لم تتخلَّ كبرى الأحزاب الباسكية عن سردية الانفصال إلا أنها أبعد ما تكون عن المضي فيه، حيث يحظى الإقليم بدرجة استقلالية اقتصادية عالية تمنحه الحق في جباية وصرف الضرائب محليًّا دون الاعتماد على مدريد، فضلًا عن اقتصاده المحلي الضعيف الذي لا يزال يعتمد بشكل كبير على مساعدة الحكومة المركزية.
5. باندانيا: تشكَّلت رابطة الشمال عام 1991، وهي حركة محلية إيطالية تسعى لإقامة منطقة إدارة ذاتية في الأراضي الواقعة إلى شمال نهر بو. يدعو مناصرو الرابطة إلى إقامة تحالف اقتصادي بين المناطق الغنية في الشمال، رغبةً في تقليص إسهامهم في اقتصاد المناطق الأكثر فقرًا جنوب البلاد. لا يمتلك الإقليم المفترض أي تاريخ متمايز عن بقية إيطاليا، ولا يتمتع بأية خصائص ثقافية أو قومية خاصة به (11).
6. الإقليم الفلمنكي: تنقسم بلجيكا إلى قوميتين: الوالون المتحدثين باللغة الفرنسية والفلمنك المتحدثين باللغة الهولندية. يزدهر الإقليم الفلمنكي اقتصاديًّا في القطاع المصرفي والخدمات فيما يعاني إقليم والونيا الصناعي من أزمة اقتصادية حادة وطويلة. انعكست هذه الحقيقة بإحياء النزعة الانفصالية للفلمنك الذين فقدوا رغبتهم في دعم اقتصاد الوالون (12). حاز الحزب الوطني الفلمنكي على أغلبية الأصوات في الكانتونات الفلمنكية في انتخابات عام 2014، ونتج عن فوزه فراغ حكومي دام 500 يوم انتهت بصفقة تاريخية أعطت الحزب الفلمنكي 5 حقائب وزارية سيادية في الحكومة الفيدرالية (13).
سعت الدول القومية الأوروبية إلى تشريع خيار الإدارة الذاتية للتهرب من مطالب الاستقلال، ولكن تُظهر التجربة الحديثة تعزيز فرص الانفصال عند نشأة مؤسسات حكم محلية في ظل الإدارات الذاتية. يدل تطور الحركة القومية الكتالونية والأسكتلندية على وجود هذا النسق، حيث طالبت حكومتها ومؤسساتها المحلية بالمزيد من الحرية الضريبية بعد أن حققت جزءًا مهمًّا من مطالبها السياسية (14).
لا تخلو الحركة القومية الكردية ومطالبها بالانفصال في العراق من العامل الاقتصادي، ولكنه ليس المبرر الرئيس الذي قدمته قادة الحركة لمناصريها للمضي قدمًا في الاستقلال. يُنتج إقليم كردستان العراق نحو 500 ألف برميل نفط يوميًّا، ويمثِّل إنتاج الإقليم 15 في المئة من إجمالي الإنتاج العراقي ونحو 0.7 في المئة من إنتاج النفط العالمي. وتطمح حكومة إقليم كردستان إلى إنتاج ما يربو على مليون برميل نفط يوميًّا بحلول عام 2020(15). ولقد نتجت أزمة سياسية حادة بين أربيل وبغداد، عام 2007، عندما فشل الطرفان في التوصل إلى قانون مشترك حول حق التنقيب والإنتاج وتوزيع العائدات على الصعيد الوطني (16). ويمكن حصر الخلاف في نقطتين كالتالي:
أولًا: ترى الحكومة الاتحادية في بغداد وجوب حصر صلاحيات تطوير الحقول النفطية وعمليات التسويق والتصدير بيد وزارة النفط الاتحادية استنادًا للقوانين النافذة بموجب المادة 130 من الدستور العراقي، في حين ترى حكومة إقليم كردستان أن للإقليم حقَّ تطوير الحقول وتسويق النفط والغاز دون العودة إلى الحكومة الاتحادية وذلك استنادًا لقانون 22 من سنة 2007 الذي شرعه الإقليم. وتعتبر الحكومة الاتحادية قانون 22 غير دستوري لتعارضه مع معطيات المادة 112 من الدستور العراقي والتي توجب إدارة الملف النفطي اتحاديًّا بمشاركة الأقاليم والمحافظات المنتجة مع الحكومة الاتحادية وبعد أن يتم تشريع قانون النفط الاتحادي (17).
ثانيًا: ترى بغداد بحسب القوانين النافذة أن جميع الواردات يجب أن تُودع في الخزينة الاتحادية ثم توزع بحسب تخصيصات الموازنة الاتحادية، كما يجب إيداع الواردات الناتجة عن تصدير النفط والغاز في صندوق تنمية العراق في نيويورك لتُقتطع منه التعويضات المتعلقة بغزو النظام السابق للكويت بمقدار 5% قبل أن تصل المدخولات إلى الخزينة الاتحادية في العراق. وهذا ما رفضته أربيل مطالِبة بوضع حساب خاص في تركيا يكون تحت سيطرتها لاقتطاع كلف الإنتاج وأرباح الشركات يتبعها اقتطاع حصة الإقليم المقدرة ب 17% قبل أن تصل المبالغ المتبقية إلى وزارة المالية الاتحادية (18).
يبقى الخلاف بين أربيل وبغداد حول إدارة ملف نفط الإقليم وتوزيع عائداته مختلفًا بتفاصيله عن المطالب الاقتصادية للحركات الانفصالية الأوروبية؛ فلقد شرعت حكومة إقليم كردستان من جهة بالتصرف أحادي الطرف دون الخضوع إلى شروط بغداد، في حين تسعى الحكومات المحلية الأوروبية إلى انتزاع حرية اقتصادية أكبر من دولها المستضيفة دون إخلال النظام الاقتصادي القائم. فعلى سبيل المثال، يدعو الحزب القومي الأسكتلندي لاستمرار تداول الجنيه الإسترليني، وعدم الخروج من النظام المصرفي البريطاني، وكذلك إقليم كتالونيا يدعو إلى استمرار تداول اليورو. وفي الحالتين، تتفق الحركتان على ضرورة استقرار النظام المالي وعدم تغييره (19). كما يمثِّل الإطار المصرفي والمالي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة أحد أهم أسباب تشجيع انفصال الأقاليم الأوروبية ذات التمايز القومي لما تؤسسه من استمرارية الحركة التجارية دون تغييرها (20).
العامل الإقليمي
يوجد إقرار شبه مجمع عليه في معظم الديمقراطيات الغربية بضرورة الاعتراف بحق الأقليات القومية بتقرير المصير، ولكن لا يوجد إجماع حول طريقة ممارسة هذا الحق عدا منح درجات متفاوتة من الحكم المحلي على مستوى الأقاليم والمحافظات. وتبعًا لهذا، شهدت أوروبا الغربية تحولات مختلفة في التجاوب مع تطور دور الدولة الحديثة. ففي حين تبنَّت بلجيكا نظامًا كونفيدراليًّا في عام 1993، أقرَّت إسبانيا قوانين ناظمة للامركزية إدارية واسعة ولكن ضمن وحدة أراضيها في عام 1978، وكذلك منحت بريطانيا حكمًا ذاتيًّا محليًّا لأسكتلندا وبلاد الغال في عام 1998 ولكن دون تفويض أي من وظائف الدولة السيادية والسياسية على الساحة الدولية. وتخوض هذه الدول عملية مستمرة لإعادة رسم حدودها الداخلية وإعادة تعريف دور السلطات المركزية بما يحقق توازنًا بين تحقيق مطالب المجتمعات المحلية والحفاظ على وحدة البلاد الجغرافية والاقتصادية (21).
يشكِّل الدعم الإقليمي لحركات الانفصال ومطالبها في الاستقلال عاملًا مهمًّا في تسهيل المفاوضات السياسية مع حكومات الدول القومية. ولقد لعب الاتحاد الأوروبي دورًا محوريًّا في تأطير مطالب الحركات القومية الأوروبية لما يمنحه من إطار إقليمي أوسع يخفف من وطأة الانفصال عن الدولة المضيفة ويحافظ على استمرار العلاقات البينية معها ولكن على مستوى أعلى من تنظيم الإدارة المحلية (22). وتقوم سياسة الاتحاد الأوروبي التنموية على تشجيع الاقتصادي المحلي في دول أعضائه، ولقد استثمرت مؤسساته أموالًا هائلة في إعادة تأهيل البنى التحتية في العديد من المناطق النائية في هذه الدول، وهذا ما يجري عليه مصطلح أوروبا المناطق(23). ولذا، تعتبر معظم الأقليات القومية الأوروبية من أنصار الاتحاد الأوروبي الأكثر حضورًا على الساحة الإقليمية، حيث تشكِّل عضويته حجر أساس لسردية أحزابها ومشاريعها، ويتم الترويج لها كإطار يسهِّل الوصول إلى الأسواق العالمية ويوفر فرص التمثيل المباشر في مناقشات النخبة.
يتجلى دور الاتحاد الأوروبي في تشجيع الحركات الانفصالية بشقين، أولًا: تمكن عضويته الأقاليم القومية الصغيرة من تعزيز مصالحها على المستوى فوق الوطني من خلال تمثيلها بالبرلمان الأوروبي بالإضافة إلى مؤسساته المالية الأخرى. ثانيًا: يعزز الاتحاد الأوروبي حجج الحركات الانفصالية الاقتصادية من خلال تأمين استمرار علاقاتها التجارية مع الدول الأم، ومن خلال الاستفادة من مساعدات الاتحاد (24).
أما على الصعيد السياسي، فتتبنى سرديات معظم الحركات الانفصالية تفاوت مستوى التمثيل في مفاوضات دول الأعضاء والاتحاد مع دور الأخير في دعم السياسات المحلية للأقاليم. وتستخدم الحركات الانفصالية خطابًا حادًّا في إدانة تفريط الدول الأم في مصالحها على الصعيد الأوروبي، ولذا، تدعو هذه الحركات لتفعيل التمثيل المباشر كخطوة على طريق الحصول على الاستقلال، وتفسَّر عضوية الاتحاد الأوروبي باعتبارها ضرورية لضمان تخصيص التمويل الحيوي لصناعات محددة، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات مع المناطق نفسها بدلًا من الدول المضيفة الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن وجود صوت في مفاوضات الاتحاد الأوروبي سيتيح فرصًا للمناطق كبلدان مستقلة لتعزيز أولوياتها. ولذلك، ينظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه يلعب دورًا مهمًّا من حيث إتاحة الفرص للتمثيل السياسي على المستوى فوق الوطني.
أما على صعيد كردستان العراق، فلا يوجد دعم إقليمي ودولي كاف لاستقلال كردستان العراق، فبالإضافة إلى طلب الولايات المتحدة من حكومة أربيل تأجيل الاستفتاء، أبدت كل من تركيا وإيران ودول الخليج دعمها للحكومة الاتحادية في الخلاف الأخير مع الإقليم. أخطأت أربيل في حسابات الدعم الدولي والإقليمي للاستقلال، وقد ارتكبت العديد من الأخطاء في التسويق له، وانعكست هذه الأخطاء على الساحة الداخلية الكردية فازدادت انقسامًا. ولقد ظهر استفتاء الاستقلال أنه مشروع حزبي للديمقراطي الكردستاني، أو حتى شخصي لمسعود بارزاني مما أسهم بطبيعة الحال في انخفاض حجم الدعم الدولي والإقليمي المفترض للاستفتاء. ولكن أهم ما يعتري مشروع الحركة القومية الكردية من نقص هو غياب تعريف حدوده ودوره في المشرق.
خاتمة
يؤخذ على الحركة القومية الكردية، تركيزها على تسويق المظلومية الكردية في تأليب الشارع وشحذ همته على الانتفاض، ولقد أثارت في معرض سعيها لزيادة مناصريها على الصعيد الدولي حفيظة المكونات المحلية الأخرى التي أضحت في دور المدافع عن الأرض ووحدة البلاد. لم ينجح الكرد في معالجة هواجس شعوب المنطقة، التي ترى محقةً أن المزيد من التجزئة يتركها فريسة أسهل للتدخلات الأجنبية ويضعف جبهتها الداخلية في الصراع مع إسرائيل بل أسهم سلوك قيادات الحركة القومية الكردية في تعزيز السردية المضادة وفي تصوير الكرد كأداة مطواعة لتنفيذ مخططات تآمرية. لقد فشلت النخبة الكردية في دمج مشروعها السياسي في مشروع إقليمي عابر للحدود، كما تعمدت الصمت حول قضايا الأمة الإسلامية والعربية المركزية، مما أفقدها دعم الجوار والدعم الشعبي اللازم لنجاعة مشروعها القومي. وخلافًا للحركات الانفصالية في أوروبا التي أكدت التزامها بإطار فوق وطني حدده الاتحاد الأوروبي، آثر قادة الحراك الكردي الانغلاق على أنفسهم وزيادة عزلتهم الإقليمية.
* سنان حتاحت، باحث زميل في منتدى الشرق، ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ورئيس تحرير مدونة نصح.
مراجع
قُدمت هذه الورقة في ندوة المسألة الكردية: دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، يومي 25 و26 -11- 2017، والتي شارك فيها باحثون ومفكرون من بلدان وتيارات فكرية مختلفة.
(1) Olukoshi, Adebayo O.; and Liisa Laakso, Challenges to the nation-state in Africa, Nordiska Afrikainstitutet, (Institute of Development Studies, Univ. of Helsinki, 1996).
(2) Khoury, Philip Shukry, and Joseph Kostiner, eds. Tribes and state formation in the Middle East, (Univ of California Press, 1990).
(3) Muñoz, Jordi, and Raül Tormos, “Economic expectations and support for secession in Catalonia: between causality and rationalization”, European Political Science Review 7, No. 2, 2015, p. 315-341.
(4) Johnston, Hank, Tales of nationalism: Catalonia, 1939-1979, (Rutgers University Press, 1991).
(5) Perez Bel, Rafa, “The elections in Catalonia will not resolve the crisis”, Al Jazeera.com, 18 -11- 2017, (Visited on 20 November 2017):
https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/elections-catalonia-resolve-crisis-171118142441159.html
(6) Smith, Alexander Thomas T. “Relocating the British subject: Ethnographic encounters with identity politics and nationalism during the 2014 Scottish independence referendum”, The Sociological Review Monographs 65, No. 1, 2017, p. 54-70.
(7) Armstrong, Angus, and Monique Ebell, “Assets and liabilities and Scottish independence”, Oxford Review of Economic Policy 30, No. 2, 2014, p. 297-309.
(8) Swan, Sean, “Three reasons why Brexit has failed to boost support for Scottish independence”, British Politics and Policy at LSE, 2017.
(9) Severin, Carrell, Late 2018 could be best time for new Scottish referendum, says Sturgeon, The Guardian, 9th March 2017
(10) Crettiez, Xavier, and Pierre Piazza, “Sociologie d'une conversation silencieuse: Protestation iconographique nationaliste et réception publique en Corse”, Cultures et Conflits, 2013, p. 101-121.
(11) Gillespie, Richard, “Between accommodation and contestation: The political evolution of Basque and Catalan nationalism”, Nationalism and Ethnic Politics 21, no. 1, 2015, p. 3-23.
(12) Cachafeiro, Margarita Gómez-Reino, Ethnicity and nationalism in Italian politics: inventing the Padania: Lega Nord and the northern question, (Routledge, 2017).
(13) De Wever, Bruno, “The Flemish movement and Flemish nationalism: instruments, historiography and debates”, Studies on National Movements 1, 2013, p. 50-80.
(14) Bruni, Waterfield, “Belgium to have new government after world record 541 days”, Telegraph, 6 December 2011.
(15) Will, Kymlicka, Politics in the Vernacular: Nationalism, Multiculturalism and Citizenship, (Oxford University Press, Oxford and New York, 2001), p. 91-119.
(16) حقائق حول كردستان العراق والاستفتاء على الانفصال، الحياة، 25 -09- 2017، (تاريخ الدخول: 26-09- 2017): http://www.alhayat.com/article/888605/حقائق-حول-كردستان-العراق-والاستفتاء-على-الانفصال
(17) Zedalis, Rex J. The legal dimensions of oil and gas in Iraq: current reality and future prospects, (Cambridge University Press, 2009).
(18) Kelly, Michael J. “The Kurdish Regional Constitutional within the Framework of the Iraqi Federal Constitution: A Struggle for Sovereignty, Oil, Ethnic Identity, and the Prospects for a Reverse Supremacy Clause”, Penn St. L. Rev. 114, 2009, p. 707.
(19) الخطيب، لؤي، أزمة نفط كردستان دستورية وليست سياسية، معهد بروكينغز، 24 -02- 20149، (تاريخ الدخول: 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):https://www.brookings.edu/ar/on-the-record/أزمة-نفط-كردستان-دستورية-وليست-سياسية
(20) Goudie, Andrew, ed. Scotland's Future: The Economics of Constitutional Change, (Dundee University Press, 2013).
(21) Bourne, Angela K. “Europeanization and secession: The cases of Catalonia and Scotland”, JEMIE 13, 2014, p. 94.
(22) Wilfried, Swenden, Federalism and Regionalism in Western Europe (Palgrave MacMillian, London, 2006), p. 6-20
(23) Hooghe, Liesbet, and Gary Marks, “Europe with the regions: channels of regional representation in the European Union”, Publius: The Journal of Federalism 26, No. 1, 1996, p. 73-92.
(24) Bourne, Angela K. “Europeanization and secession: The cases of Catalonia and Scotland”, JEMIE 13, 2014, p. 94.[1]