د. عدنان منصور*
الشعار الذي رفعه الكيان «الإسرائيلي»، من النيل الى الفرات، وجد طريقه الى كردستان العراق، قبل أن تظفر «إسرائيل» باتفاقية كامب دايفيد مع مصر عام 1978، واتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994.
شهر العسل الطويل بين «إسرائيل» وزعماء كردستان العراق، بدأ قبل قيام الصهاينة بإعلان دولتهم على أرض فلسطين عام 1948، إذ انّ التمدّد «الاسرائيلي» في كردستان العراق حالياً، ليس وليد الساعة، أو غريباً عند القيادة الكردية في أربيل، ولا عند السلطة المركزية في بغداد. فالقيادة الكردية انغمست الى حدّ بعيد، ومنذ عقود، في علاقاتها مع «إسرائيل»، متجاوزة كلّ الخطوط الحمر، غير مبالية بالحكومات العراقية التي تعاقبت على الحكم منذ أكثر من ستين عاماً وحتى اليوم.
إنّ أول تواصل بين الحركة الصهيونية وكردستان العراق، كان عام 1939، الذي تمّ عبر ضابط الاستخبارات روفن شيلواه Reuven Shiloah، الذي ساهم بدور مهمّ في قيام «إسرائيل» وكان وراء تأسيس جهاز الاستخبارات «الإسرائيلية» #الموساد#، وأصبح في ما بعد أول رئيس للجهاز، بين عامي 1949 و1952.
قام شيلواه بأول زيارة الى كردستان، معرفاً عن نفسه بأنه صحافي ومدرّس. أثناء إقامته فيها، أجرى اتصالات ولقاءات عديدة مع جماعات قومية وعرقية مختلفة، غير عربية في المنطقة.
بعد إعلان قيام دولة «إسرائيل» عام 1948، غادرت غالبية اليهود العراقيين الكرد إقليم كردستان، الى فلسطين، عبر الأراضي الإيرانية، بدعم من الشاه، وبالتنسيق مع جهاز الاستخبارات الإيراني «السافاك».
منذ ذلك الحين، أصبح اليهود الكرد يشكلون أهمية ل «إسرائيل» في إغناء مصادر معلوماتها عن الإقليم، وعن العراق ككلّ، وتوفير وضع ملائم لها لجهة تحركها وتواصلها معه، وتعزيز العلاقات مع مكوناته، وإيجاد قاعدة نفوذ لها.
في عام 1959، أوفد الزعيم الكردي مصطفى البرزاني، كموران بدركسان الى جنيف، حيث التقى فيها غولدا مائير وزيرة خارجية «إسرائيل»، التي أكدت له دعم «إسرائيل» الكامل لاستقلال كردستان.
إنّ نزعة الانفصال والاستقلال للكرد، دفعت بزعيم الحركة الكردية مصطفى البرزاني، الى تأسيس علاقات وثيقة استراتيجية مع «إسرائيل»، بعد أن لقيَ تجاوباً وتأييداً ملحوظاً من تل أبيب، ودعماً عسكرياً ولوجستياً ومالياً، وإعلامياً، ودبلوماسياً كبيراً للحركة الكردية، وتطلعاتها الانفصالية والاستقلالية.
عندما قام الكرد بثورتهم المسلحة ضد السلطة المركزية في بغداد، عام 1961، أدركت «إسرائيل» على الفور أهمية تحركها الاستراتيجي في كردستان العراق، حيث بادرت الى الاتصال بالقيادة الكردية، عارضة عليها المساعدات اللازمة لها. في حين رأى الزعيم الكردي مصطفى البرزاني دوافع «إسرائيل» في مساعدة الكرد، مصلحة في «إشغال الجيش العراقي أو معظمه، وإبقائه مسمّراً في قتاله مع الكرد، للحيلولة دون إرساله الى خطوط المواجهة في حالة الحرب مع الدول العربية. وقد لوحظ أثناء ذلك، أنّ العراق لم يقم بأيّ عمل عسكري جدي على الجبهة ضدّ «إسرائيل»، رغم وقوع الاشتباكات في فترات توقف القتال في كردستان»!
(مسعود البرزاني: البرزاني «مصطفى» والحركة التحررية الكردية. الجزء الثالث. صفحة 380 اربيل 2002).
طبيعة المساعدات «الإسرائيلية»، وصفها مسعود البرزاني بقوله، أنه «في شهر أيار مايو 1965، وصل الى كردستان دايفيد كمحي، ممثلاً الحكومة «الإسرائيلية»، وبدأ ينسق مع الثورة، وبدأت تصل مساعدات عسكرية وفنية، لكن بشكل محدود… كان بوسعهم أن يزيدوا فيها كثيراً فلم يفعلوا، وتقصّدوا أن تبقى بنطاق ضيق بغية إدامة القتال في كردستان دون حسم، ليبقى الجيش العراقي مسمّراً في جبال كردستان، بعيداً عن ساحات القتال في فلسطين. كان هذا قصدهم، وهو عين قصد الشاه… لكن الواقع هو أنّ «اسرائيل» وشاه إيران كانا متفقين على سياسة واحدة إزاء الثورة، وهي استمرار القتال فحسب، دون الخروج بنتيجة حاسمة لأيّ طرف، نصراً كان أم هزيمة»!
من هنا يتبيّن أنّ هدف وغاية «اسرائيل» وإيران الشاه، كانا يستهدفان استنزاف الجيش العراقي وإضعافه وشلّ حركته وقدراته.
لقد جاء العديد من الخبراء العسكريين «الإسرائيليين» الى المناطق الكردية، لتخطيط المعارك، وقيادة عملياتها العسكرية. وعلى الرغم من أنّ مسعود البرزاني حاول أن يدحض المزاعم «الإسرائيلية»، بأنّ «الإسرائيليين» وفرّوا عوامل النصر لمعارك عديدة خاضها الكرد ضدّ الجيش العراقي وأبرزها المعركة الشهيرة «هندرين»، الا انّ الكاتب «الإسرائيلي» شلومو نكديمون أكد في كتابه: «الموساد في العراق ودول الجوار» إصدار عام 1997، أنّ المعارك الفاصلة التي خاضها الكرد جرت بتخطيط وقيادة ضباط «إسرائيليين».
على خط آخر قام السافاك والموساد، بتدريب عملاء لهما في إيران، حيث قاموا بدورهم في نقل المعدات العسكرية «الإسرائيلية» الى المقاتلين الكرد (البيشمركة) في شمال العراق.
بعد حرب 1967، ازدادت المساعدات العسكرية للكرد بشكل كبير وملحوظ إثر زيارة الملا مصطفى البرزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الى «إسرائيل»، حيث استمرّت المساعدات مع تجدّد المعارك عام 1972 بين البيشمركة والجيش العراقي بشكل عنيف، وبعد تنسيق تمّ بين غولدا مائير رئيسة وزراء «إسرائيل» وشاه إيران، أثناء زيارتها الى طهران.
تمّ إرسال كميات كبيرة من الأسلحة السوفياتية الى المقاتلين الكرد، التي استولت عليها «إسرائيل» أثناء حرب حزيران 1967.
التنسيق الكردي «الاسرائيلي» الإيراني، استمرّ حتى عام 1975، تاريخ توقيع اتفاق الجزائر بين إيران والعراق حول ترسيم الحدود في شط العرب، ما أدّى بعد ذلك الى توقف طهران عن مساعدة الكرد. لكن التنسيق العميق بين السافاك والموساد استمرّ على قدم وساق، لحين سقوط عرش الطاووس في إيران وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أنقاضه، وقطع العلاقات نهائياً مع الكيان «الإسرائيلي».
أثناء الحرب العراقية الإيرانية، قدّمت «إسرائيل» مساعدات مختلفة للكرد عبر البوابة التركية العراقية، واستمرّت في تسليح وتدريب عناصر البيشمركة، وهذا ما كشفته بعد ثلاث سنوات من الغزو الأميركي للعراق، محطة BBC التي بثت فيلماً موثقاً عام 2006، يظهر فيه قوات «إسرائيلية» تدرب عناصر كردية مسلحة تابعة للبيشمركة في كردستان، ما دفع ب «إسرائيل» الى إدانتها لبثها هذا الفيلم!
استمرّ تطور العلاقات بين الكرد والكيان، ليشهد عام 2008، لقاء زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني بوزير الدفاع «الإسرائيلي» يهودا باراك. وفي عام 2014، وبخطوة مستفزة لبغداد، وافقت حكومة كردستان، على تزويد «إسرائيل» بالنفط وتوصيله الى ميناء عسقلان، حيث بلغت كمية النفط المصدرة الى «إسرائيل» عام 2017، نصف إنتاج كردستان من النفط.
فيما أعرب نتنياهو بدوره عن دعمه للجهود الشرعية للشعب الكردي في إقامة دولته المستقلة.
بعد قيام السلطات الكردية بإجراء استفتاء شعبي على استقلال كردستان عام 2017، دون موافقة بغداد، صرّح نتنياهو أنّ «الإسرائيليين» يكنّون عاطفة عميقة تجاه الكرد!
لم تشأ «إسرائيل» حصر علاقاتها في كردستان فقط، بل أرادت توسيع دائرة تحركاتها، لتجعل من كردستان العراق قاعدة استخباراتية، وتجسسية، ولوجستية، وعسكرية متقدّمة. منها تشنّ الأعمال العدوانية ضدّ إيران، وتجهّز المجموعات والخلايا الإرهابية، وتدرّب الشبكات التجسّسية، لتضرب في العمق الإيراني، وتقوم بتفجير منشآت مدنية وعسكرية، واغتيال علماء، وزعزعة الاستقرار، وتهديد الأمن القومي للبلاد، والعمل على إثارة النعرات القومية والطائفية في الداخل الإيراني.
لقد أثبتت الوقائع على الأرض، أنّ سلطات أربيل على علم ومعرفة واطلاع كامل في كلّ ما يفعله ويقوم به الموساد وهي تغضّ النظر عن مؤامراته ضدّ إيران، وعن شبكاته، ومكاتبه ومنشآته، وأيضاً عن المجموعات، والأماكن التي يديرها الموساد وعملائه في الداخل العراقي والإيراني، وما يقومون به من اعتداءات ضدّ إيران وأمنها القومي واستقرارها.
رغم تنبيهات طهران وتحذيراتها لحكومة بغداد، وحكومة أربيل بالذات، وما تقوم به الفصائل الإرهابية ضدّ إيران، وما تفعله شبكات الموساد التجسّسية في كافة أنحاء العراق، لا سيما في كردستان التي توفر حكومتها الحماية، والرعاية الكاملة لها، استمرت أربيل في سلوكها ونهجها في هذا الشأن.
طهران أعلنت بشكل حازم وحاسم أنها لن تسكت على ما تبيّته وتقوم به أوكار الجاسوسية «الإسرائيلية»، وقواعدها العسكرية العدوانية ضدّ إيران، انطلاقاً من العراق، وبالذات من كردستان. وهو إنذار حاسم موجه لقادة أربيل وغيرهم، تضعهم أمام خيار من إثنين لا رجوع عنه: إما إغلاق القواعد العسكرية، والبؤر التجسسية للموساد، وإما المزيد من الضربات لحين اقتلاعها بالقوة والقضاء عليها، وعلى القيادة الكردستانية ان تتحمّل عواقب تصرفاتها.
طهران لن تتردّد في تدمير أوكار الموساد، وعملائه الإرهابيين، وهي حاضرة في أيّ وقت لملاحقتهم، وردعهم داخل كردستان أو خارجها. وما قصف بؤر الإرهاب مؤخراً في كردستان، إلا ليعبّر عن قرار إيراني حاسم لا رجوع عنه، وهو القضاء على أوكار الإرهاب مهما كلف ذلك من ثمن.
—————–
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.[1]