سوريا، فسيفساء الحضارات بين الماضي والحاضر
تداخلات مشروع الشرق الأوسط والدولة القومية وحلّ الأمة الديمقراطية
حنان محمد
سوريا تلك الأرض التي تنبض بالحضارة منذ فجر التاريخ، ليست مجرد وطن، بل هي ذاكرة الإنسانية ومرآة الروح التي لا تنكسر رغم العواصف.
حين نتأمل مكوناتها، لا نراها كأجزاء متفرقة، بل كأنسجة متشابكة، نسجها الزمن بحكمة، وغزلتها الشعوب بأحلامها وآلامها، لتصبح فسيفساء لا تشبه أي لوحة أخرى في هذا العالم.
منذ آلاف السنين، كانت سوريا مهدًا للحضارات، حيث ارتفعت أعمدة “ايبلا وماري وتدمر”، وشهدت أرضها أولى الأبجديات، وأولى محاولات الإنسان لتنظيم الحياة وتدوين الفكر وتقديس الجمال.
لم تكن تلك المدن مجرد حجارة، بل كانت نبضًا حيًا يروي قصة الإنسان في بحثه عن المعنى. في كل زاوية من تلك المدن القديمة، كانت هناك صلاة، أو قصيدة، أو نقش على جدار، يقول إن هذه الأرض كانت تعرف الحب، وتعرف الحلم، وتعرف كيف تصنع المجد من الطين.
ومع مرور الزمن، لم تتوقف سوريا عن استقبال القادمين من كل صوب، فكانت ملتقى الشعوب، ومأوى الطوائف، ومرآة للتنوع الذي لا يفرق بل يوحِّد، التنوع الذي يُضفي إلى النسيج السوري لونًا آخر من ألوان الحياة. لم يكن هذا التعدد عبئًا، بل كان مصدرًا للغنى، حيث تداخلت الأديان والمذاهب، وتعلم الناس أن الاختلاف لا يعني التباعد، بل هو فرصة للتكامل.
في سوريا، لا يمكن أن تتحدث عن مكون دون أن تلمس أثره في الآخر. العرب والكرد والسريان والأرمن والشركس والتركمان والإيزيديون، كلهم عاشوا على هذه الأرض، وكلهم تركوا بصمتهم في اللغة، والموسيقى، واللباس، والعادات. في الأسواق القديمة، تسمع لهجات متعددة، وتشم روائح توابل من ثقافات مختلفة، وترى وجوهًا تحمل ملامح من كل حضارة مرت من هنا. هذا التداخل لم يكن مجرد تعايش، بل كان حياة مشتركة، فيها الحب، وفيها الخلاف، وفيها المصير الواحد.
دمشق، التي يُقال إنها أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، لم تكن يومًا مدينة عادية. كانت دائمًا قلب سوريا، تنبض بالحياة، وتحتضن الجميع. فيها عاش الشعراء، وكتب الفلاسفة، وغنَّى العشاق، وبكى المنفيون. وفي حلب، كانت القوافل تمر، وتختلط اللغات، وتولد الحكايات. وفي دير الزور، والرقة، والحسكة، واللاذقية، والسويداء، ودرعا، كانت
الأرض تروي قصصًا مختلفة، لكنها كلها تنتمي إلى الحكاية الكبرى “حكاية سوريا”.
ورغم ما مرت به سوريا من حروب وصراعات، بقيت الروح السورية صامدة. لم تنكسر أمام الألم، بل حولته إلى فن، وإلى مقاومة، وإلى أمل. في كل بيت سوري، هناك قصة عن فقد، لكن هناك أيضًا قصة عن صمود. في كل قلب سوري، هناك جرح، لكن هناك أيضًا حلم. هذا الترابط بين الماضي والحاضر، بين الألم والأمل، هو ما يجعل سوريا ليست مجرد وطن، بل رسالة.
اليوم، ورغم كل الجراح، لا تزال سوريا تحاول أن تنهض. في المدارس، يعود الأطفال إلى التعلم، وفي الورش، يعود الحرفيون إلى صناعة الجمال، وفي البيوت، تعود الأمهات إلى الغناء لأطفالهن. الشباب السوري، رغم كل ما فقده، لا يزال يبدع، ويكتب، ويرسم، ويغني، وكأنه يقول للعالم: نحن هنا، نحن نحب الحياة، ونحن نستحق السلام.
سوريا ليست فقط تاريخًا، بل هي مستقبل أيضًا. مستقبل يُبنى على ذاكرة غنية، وعلى ترابط لا يمكن أن يُفكك. هذا الترابط بين مكوناتها، بين طوائفها، بين لغاتها، بين مدنها، هو ما يجعلها قادرة على النهوض من جديد. فكما اجتمعت
الحضارات يومًا على أرضها، يمكن أن تجتمع الإرادات اليوم لبناء وطن يليق بهذا التاريخ، ويليق بهذا الشعب.
في النهاية، سوريا هي الحنين، وهي الحكمة، وهي الجمال الذي لا يذبل. هي الأرض التي علمت الإنسان كيف يحب رغم الألم، وكيف يحلم رغم الخوف، وكيف يبني رغم الخراب. سوريا هي القلب الذي ينبض بكل الألوان، وكل الأصوات، وكل القصص. وهي الوعد بأن الضوء سيعود، مهما طال الليل. [1]