دراسة في السيميائية السردية
أ.د.ظاهر لطيف كريم و أ.د.نيان نوشيروان فؤاد
تشَكل جدلية الأنا والاّخر محورا مهيمنا في القصص والروايات التي تسمي بالحضارية لكونها ترسم الإنعكاسات الثقافية والإجتماعية والفكرية والنفسية والبيئية والرؤي المتنوعة ضمن صورة الأخر من جهة وتجليات الأنا من جهة أخري ، إنَ الأنا تبرز من خلال تثبيت الهوية وتعزيزها في صورتها المكانية والزمنية،كمكانية وزمنية الشرق مثلا، بكل مقوماتها وخصوصياتها وملامحها وتاريخها وثقافتها ،أما الأخر،كالغرب، فيبرز من خلال صورته بكل افاقه الفكرية والعلمية والاجتماعية ورؤاه المختلفة ،ثم التفاعل ضمن منظومة التبادل والتضاد والتكامل وفقا للتجليات المعرفية للطرفين وتجلياتها في البني السردية .وقد جاء منهج السيميائية السردية بأبعاده الدلالية وترسيخ العلاقات الغيابية في الفعل الإبداعي من خلال المضامين السردية والقوانين المنطقية التي تربط الأفعال في النتاج الإدبي.وترجع السيميائية السردية الي مؤسسها طريماس ومدرسة باريس السيميائية واتباعه جوزيف كورتيس وجان ماري فلوش وتندرج سيميائية مدرسة باريس خاصة في بداياتها داخل التيار الشكلاني البنيوي للسانيات وخاصة عند الرواد (سوسير ويالمسيلف).وقد استفاد طريماس من تصور بروب في مسيرة السيميائية السردية ( سعيد بو عيطه:47). فالسيميائية تعني بنظرية الدلالة واجراءات التحليل التي تساعد علي وصف انظمة الدلالة وتسعي الي ابراز شكل المضمون وتنظيم المدلول (ميشال اريفيه: 105 -106 )وبخاصة السيميائية السردية والتي تطرح دائما مشكلة المعني من خلال الملفوظات السردية ( سعيد بنطراد (أ) :78) . فالنظام السردي يتكون من المكون السردي ويقوم علي دراسة الترسيمة السردية للخطاب بما يتظمنه من ملفوظات الحالة والفعل وعناصره بالإضافة الي تحديد الأدوار العاملية وتوزيعها يضاف الي بنية النص العميقة(محمد ناصر: 31) وبما يلائم رصد الأنا والأخر واكتشاف انماطه وتداعياته ،ورصد البنية السردية للخطاب الروائي بكونها بنية عاملية مكونة من الذات والموضوع والمرسل والمرسل اليه والمساعد والمعاكس ومابينها من محاور وحالات وتحولات (جوزيف كورتيس: 105.) .فالسردية ،من جانب، هوكيان منظم بشكل سابق علي تجليها في مستوي غير مرئي من خلال التجلي النصي (سعيد بنطراد (أ): 38) . ومن جانب اخر هو تحويل البني المجردة الي عناصر محسوسة وسكبها في محتوي مؤطر بزمان ومكان.اي منح البعد الدلالي وجها تصويريا قابلا للادراك (سعيد بنطراد(ب):75).من هذا المنطلق،فأن السردية،وبخاصة عند طريماس،تبرر التحليل السردي وتمنحه شرعية بأعتباره مجالا للأبحاث المكتفية ذاتيا من وجهة نظر منهجية ( غريماس:13).ويمكن تبيان الأنساق المختلفة لتجليات بيئتي الشرق والغرب في قصة (كنَة اته خان) للروائية والقاصة الكردية كلاويذ(1930- ) والتي تتمحور فيها القيم الدالة علي التشاكل والتباين بين الأنا (الشرق) والأخر (الغرب) والأجابة علي التساؤلات الأنفصالية والأتصالية بينهما. فقد تطرقت المؤلفة الي هذا الإتجاه الحساس في الرواية والقصة الكردية كونه يشكل محور الإنتماء من جهة واللاإنتماء من جهة أخري ،وتجسيد قضية إجتماعية من حيث رحلة الشباب الي الغرب ووقوعهم في حالة انبهار بالحضارة الغربية والحرية ومن ثم محاولة الأنا للوقوع في فضاء الأخر وماينجم من حالات وسلوكيات متنوعة وخاصة ضمن الأسرة وهي الخلية الأساسية في المجتمع . إن القصة تبين حركة الشخصية وهو (حسن )ابن أسرة كردية تعيش في السليمانية حيث الفضاء الذي يدل تمظهر الأنا رمز للمجتمع الشرقي ثم السفر للدراسة خارج الوطن الي لندن وتعارفه ثم زواجه من (جيني) المرأة الأجنبية التي اعجب بسلوكها لكن الشخصية الرئيسة رجعت الي كردستان مع الزوجة والأولاد بعد اكمال مشروعها الدراسي.من هنا تظهرمحاولة التحاور السوسيولوجي والحضاري والسايكولوجي بين الأنا والأخر علي الرغم من التباين بينهما .ويمكن تبيان معظم الحالات والأفعال السردية والتحولات التي تتمظهر من خلالها الأنا والأخر كما يأتي:
فعل الرحيل :
إن نقطة الإنطلاق في الرواية قائمة علي رحلة الذات في شخصية (حسن) الي الغرب والتعرف،من خلال دراسته العليا، علي الثقافة الغربية عن كثب وهذه الحركة تتجسد من خلال نمذجة الأنماط والمرتكزات المهيمنة في النص خلال:
حالة الأنفصال :
فعل السفر هو حدث له دلالة الإنفصال والإبتعاد من حيث الأبعاد الجغرافية والنفسية والأجتماعيةفي ثنائية الداخل والخارج والإبتعاد عن الأسرة والأهل والأصدقاء وحالة الأنا المتجسدة في الوطن (الشرق) بصورة عامة وكردستان ومدينة السليمانية بصورة خاصة ومافي ربوع الوطن من ذكريات الطفولة والصبا والأنتماء النفسي والإجتماعي والثقافي للأنا ،وصولا الي بيئة الأخر،موقع الدراسة. وقد وصفت المؤلفة علي السنة الشخصيات المدة الزمنية والغربة التي تحمّلها حسن من اجل الموضوع وهو تحقيق طموحه الدراسي .الأبن الذي أمضي سنوات طويلة في الغربة وقد نال شهادة الدكتوراه في الهندسة( گەلاوێژ:20).خارج عن الأنفصال المكاني،فان اللغة تشكل ايضا حاجزا انفصاليا لموضوع الفهم والتقرب بين أهل حسن وجيني،المرأة الأنجليزية التي تزوجت ب(حسن) ،اذ نجد انفصالا في المعاني والتعابير كأن الطرفين في وضعية الغيبوبة لم تكن هناك لغة مشتركة بينهما...اوه حسن يا ولدي العزيز،الم يكن خير لنا ولها لو كنت قد تزوجت بفتاة كردية نفهمها وتفهمنا... .( گەلاوێژ: 44- 45).اكثر من ذلك،فان اختلاف العادات والتقاليد بين الطرفين هو عامل اخر لحقيقة فعل الأنفصال.لنري ماذا تقول اته خان بشأن جيني كيف تتعلم؟ وهي لا تختلط بنا،وحين تسمع جرس الباب تسارع الي غرفتها ولا تجلس مع الضيوف،وحتي اني هيأت لها الزي الكردي بجميع ملحقاته ولكنها لا تلبسه( گەلاوێژ: 48).
حالةالإتصال.
وصول حسن الي لندن الفضاء المكاني والذي يجسد الأخر(الغرب) بكل افاقه الحضارية والفكرية والنفسية والأجتماعية والإقتصادية وذلك من اجل الدراسة والعيش هناك،فترة الدراسة،ومحاولة بلوغ فعل الترقب الحضاري وخلق فعل الإنتماء الي الأخر.ثم جاء موضوع ثان بعد الرغبة في انجاز الفعل الدراسي ، وهو الأعجاب بجيني والزواج بها وإنجاب الأولاد منها .وقد بيّن السارد هذه الحالة بقولهكان حسن جارا لأسرة جيني حيث كانت أم جيني تراعيه واحيانا ترتب له بيته وتغسل ملابسه مقابل أجر زهيد وكانت جيني تعمل في أحد المخازن حين تعرفت علي حسن الذي أعجب بالفتاة وبأخلاقها وخفة دمها وبعد فترة اتفقا علي الزواج وثم تزوجها( گەلاوێژ: 33).وهذا يعني ان العلاقة العاطفية بينهما كانت عاملا فعالا لخلق ارتباط الأنا بالأخر علي الرغم من وجود حاجز مكاني ولغوي ومن ثم العادات والتقاليد.اضافة الي ذلك فأن خلقية الأثنين ،اجتماعيا وتجاه بعضهما، هي فعل اخر لموضوع الأرتباط والأتصال.يقول الساردجيني امرأة عاقلة وهادئة وتربت في اسرة وكانت والدتها حريصة عليها ولم تسمح لها بأن تنطلق علي هواها...جيني تعمل في احد المخازن حيث تعرفت علي حسن الذي اعجب بالفتاة وبأخلاقها وخفة دمها (گەلاوێژ: 32- 33).
حالةالتلاقح الحضاري:
انَ الذات المسافرة(حسن)قد أرتات عن طريق الأرتباط بالأخر تحقيق الفعل التحولي بين ثنائيتي الداخل والخارج وبين الأنا والأخر لتحقيق التواصل عن طريق التحول من عامل اللااستقرار في الغربة الي الإستقرار النفسي سواء اكان في الغربة ام الوطن.فالذات في القصة تتجسد في الأبن حسن والأم اته خان والزوجة جيني ومحاولة الذات الفاعلة من الوصول الى غاية التفاعل والحوار الحضاري في جدلية الأنا والأخر ومحاولة تقريب المسافة والهوة الموجودة بين الحضارتين.ومن اجل الترابط الحضاري فأن موضوع الدين قد تم معالجته بالطريقة الظاهرية،فجيني عند اهل حسن اصبحت مسلمة وربما ان حسن ايضا عند اهل جيني اصبح عكسا.ولكن هل تصدقين انها اسلمت فعلا،وان لم تكن كذلك علينا ان نحسبها في عداد من هم علي غير ديننا...لا يا اختاه انها اسلمت منذ البداية والا كيف كان العم الحاج يرضي ان يتزوج ابنه واحدة غير مسلمة( گەلاوێژ: 26).بالأضافة الي ذلك،ومن أجل الملائمة الترابطية والحضارية بين طرفي الأنا والأخر فأن حسن يهاجم بعنف ملابس المرأة الكردية لأن أهله أراد،بل طلب، من جيني أن تلبس تلك الملابس في مناسبة معينة وان هذه الملابس كانت غريبة بالنسبة لها،بل هي بعيدة جدا عن تراثها القومي.بشأن ذلك قال حسنانها حرة،لتعمل وفق مشيئتها وتلبس ما تشاء(گەلاوێژ:51).ثم اكدت اخته ثخشان بقولهالماذا جعلتم من الزي الكردي مسألة خطيرة،أنها تتضايق داخل هذا الزي،لماذا نجبرها علي شيء لا تريده(گەلاوێژ: 51).
حالة الرفض والقبول :
إن مسألة الإقتران بفتاة اجنية تثير الفعل المعاكس لدي الأهل وخاصة الأم وكان حسن يخاف في البداية أن يخبر والدته وأسرته بزواجه من جيني خوفا من الرفض للأخر حتي من أهله. فالسارد يروي ذلك في البداية لم يستطع إخبار أبويه بزواجه لأنه كان واثقا بأنهما لايحبذان زواجه من أجنبية فضلا عن انهما كانا فد تمنيا زواجه من فتيات كردستان(گەلاوێژ: 33) وحين أضطر الي إخبارهما بزواجه غضبا منه غضبا شديدا (گەلاوێژ:33) وأستمر الخلاف الي أن انجبا ابنهما البكر وحين تسلمت اته خان صورة حفيدها اجهشت بالبكاء وثم بدات تطبع القبلات علي وجه الصورة(گەلاوێژ: 33) اي انه بعد إنجاب الأطفال أعلن لأهل هزواجه لأنه كان يفترض او بل كان يعلمسعادة العائلة خاصة الأم لوجود الأحفاد .وذلك لأن الأطفال هم حلقة الوصل بين الأنا والأخر وهم تشكل بعدا حضاريا جديدا لتجمع البيئتين واللغتين واستقطاب معظم سلوكيات القطبين،وذلك من خلال تفاعل الجينات الطبيعية والفكرية والمزاجية والنفسية والسلوكية وبصورة لاواعية وخالية من التصنع والتزييف .فهم وجه مغاير للأنا والأخر، وجه جديد يتمظهر فيه التناص اللاواعي للأنا والأخر والذي يمكن ان نسميهم بالصفة الجمعية المصغرةالأناخر.كل هذا يعني ان هناك بأستمرار ومنذ البداية تنافسا شديدا مابين الرفض والقبول،وان الدافع الأساسي لتقبل وتثبيت هذا الأستمرار يعود الي الترابط العاطفي والأنساني مابين الأنا والأخر.
فعل العودة: وهذه الحركة تنم عنها مجموعة من الأفعال والحالات:
حالة الإنتظار والترقب:
حيث عودة الذات المهاجرة بعد السفر حسن وعائلته الي أرض الوطن (الأنا) والتحول من الانفصال عن الوطن الي الإتصال ، بينما نجد الذات الأخري (جيني) في حالة حب الإستكشاف او الترقب للشرق، ثم الذوات المنتظرة، الأم والأب والأخت وذلك عن طريق الإستعداد قبل اربعة شهور في شوق للقاء وخاصة الأم،حيث التحضيرات من غرف ومأكولات ثم السفر برفقة مجموعة من الأقارب الي مطار بغداد لإستقبال حسن وعائلته ، وإرتداء أجمل الملابس الكردية للقاء.كانت اته خان قلقة ،لايستقر بها مكان، وتحسب الساعات والأيام لقدوم يوم الجمعة ، وكانت تتخيل إن هذه الأيام القليلة بمثابة سنوات لأنها لاتنقضي بنظرها فهو الموعد الذي كانت تنتظره منذ السنوات(گەلاوێژ:4) أصبح البيت مهيئا ، فرشت السجاجيد في الغرف،غرفة حسن وعروسه الحبيبة وغرفة لحفيديها مرتبتان ومهيأتان ولم تنس تزويد غرفة الحفيدين بلعب الأطفال الجميلة( گەلاوێژ:4).ان اتة خان لم تتحمل الفراق وقد فقدت الصبر ولم تعد تطيق الانتظار اكثر .
حالة الوصول الي ارض الوطن:
نزول حسن وعائلته الي المطار والاستقبال الحار لهم ودموع الأم من الفرحة لعودة الأبن .ان فضاء المطار يجسد حركية الأنا والأخر ومحطة الإنفصال تارة والإتصال تارة أخري .لذلك يعد المطار علامة سيميائية ومؤشرا علي ثنائيتي الإتصال والإنفصال وكان مكانا مفتوحا تتجمع فيه كافة الفئات البشرية المختلفة وتظهر فيها تجليات الأناخر وتفاعلهما بصورة بارزة ، وبعد هذا البعد المكاني يأتي فضاء المنزل والوصول اليه. فالمنزل رمز الاستقرار والأمان والدفء والحنان والعودة ثانية الي احضان الوطن وذكريات الطفولة.وقد بيّن الناقد الفرنسي باشلار موقع البيت بالنسبة لإنسان بوصفه المكان الأليف (غاستون باشلار : 38). والعمل الأدبي يرتبط بالمكانية للإظهار الخصوصية للأنا والأخر .يقول السارد وظهر حسن بهندامه وأناقته وهو يدفع عربة محملة بالحقائب وفوقها ولده الصغير وحين أبصر أهله رفع يديه ملوحا لهم وإبتسامة مرتسمة علي شفتيه.وكانت تمشي وراءه إمرأة شقراء رشيقة القد كانت جيني زوجة حسن الأجنبية وبجانبها طفلة لم تبلغ السابعة بعد(گەلاوێژ: 21).ثم بدأت دموع الفرح تنزل من عيني اته خان وهي تري ابنها متوجها اليها(گەلاوێژ:22 ). وفي هذه الأثناء وصل حسن الي حيث أمه التي هرعت اليه والي زوجته وأطفاله وهي تبكي ، ثم العمة والعم والخالة والخال وابناء وبنات الخال والأقرباء والجيرانحاصروا الأسرة الصغيرة القادمة من الخارج والكل يرحبون (گەلاوێژ:23).من شدة الفراق والعاطفة،ان العمة حبيبة التي كانت حاضرة في المطار لاستقبال حسن وعائلته خرقت الممنوعات وقفزت علي السياج واندست بين الركاب اتمطر حسن بالقبلات والأدعية وقبل ان تصل بركاتها الي جيني حاصرها اثنان من رجال امن المطار وهزا ذراعيها قائلين: ماتفعلينه ممنوع ..ممنوع(گەلاوێژ: 22).
ثقافة الإختلاف :
ان تواجد جيني الذات التي تحمل فضاء الأخر في مناخ الأنا الشرق ، يتمخض عنه حالات التباين في نمط الحياة والقيم والعادات والتقاليد وطرق التفكير ،وعن طريق هذا يتم ترسيخ الهوية ووعي الأنا للعودة الي الهوية والشعور بذلك للتميز عن الأخر وبدون الأخر لما تمّ معرفة الأنا وتحديدها كانت جيني تنظر يمنة ويسري ،لم تكن تصدق نفسها وهي التي اعتادت العيش في بريطانيا في دار متواضعة صغيرة كانت بالنسبة الي هذه الدار أشبه بعلبة الشخاط ، والأن تجد نفسها في هذه الدار الكبيرة مندهشة(گەلاوێژ:29). فقد بينت جيني للوهلة الاولي الفرق بين السكن لديهم في مساحة صغيرة ومنازل الشرقيين الكبيرة وهو عبارة عن رؤية مورفولوجية السكن ثم عادات تكريم الاحبة والضيوف بالترحاب الحار وتقديم الأطعمة المتميزة الفولكلورية مثل الكفتة الكردية المشهورة بكبرها وتنسب الي محلة صابونكران وهي من المحلات السكنية العريقة في مدينة السليمانية .وأكلة الباجه ثم كمية الطعام والكرم التي هي من صفات العائلة الكرديةحين بوشر بتناول الطعام مدت الحماة يدها لتأخذ كفتة من الحجم الكبير ووضعتها في إناء جيني ،فيما تناول حموها قطعة كبيرة من اللحم وطلب من زوجته ان تضعها في إناء جيني ، وحين نظرت جيني الي إنائها المليء بهذه الأكلة الثقيلة تنهدت وهي مندهشة كيف يمكنها تناول كل ماهو موضوع في إنائها الخاص ، وقالت في نفسها إنها تكفيني لمدة أسبوع (گەلاوێژ: 30) . ومن صفات الأم الشرقية ابراز العاطفة الشديدة تجاه الأطفال انتفضت اته خان لدي سماع صوت بكاء حفيدها فذهبت علي عجل الي باب غرفة ابنها وزوجته وسألت عنالأمر،فطلب منها ابنها الدخول وحين دخلت وجدت جيني وقد احتضنت طفلها وهو يبكي باستمرار وبدأت اته خان بالدعاء وقراءة الايات القرانية علي الحفيد ( گەلاوێژ: 34). ان هذه اللهفة والحنان موجودة لدي الأم والجدة والخوف الشديد علي الأطفال ويوضح حسن ذلك انهم في الغرب لايتعاملون مع الأطفال كما نعمل حتي لاتلازمه صفة التدليل حينما يكبر (گەلاوێژ:118). كما نجد الفرق في المناسبات السعيد ة كحفلات الأعراس والحزينة كالماتم حيث اظهار العاطفة الجياشة في كليهما ففي الأعراس يتم غالبا ارتداء الملابس الكردية الزاهية الألوان والتي تشكل إعتزاز الكرد بإنتمائهم القومي، وكانت جيني تخشي الوقوع عند ارتداء الملابس الكردية لأنها لم تتعود علي ذلك ، وفي الماتم لاتستطيع تحمل البقاء لفترة طويلة في العزاء وتري وتسمع العويل والصراخ واللطم انها غير معتادة علي مجالس التعزية ، ففي بلادها يكتفون بإرسال بطاقة فقط(گەلاوێژ:54) وحتي في رمضان شهر الصوم وتساؤلات الناس عن ديانتها وهل هي صائمة ام لا ؟ وكان الفضوليون يبدأون بالهمسات وتضطر اته خان الي ايجاد الحجج دفاعا عنها وحبا ل حسن وتقول اني لها ان تعرف ماهو الصيام رغم انها والحمد لله مسلمة واستوعبت الفرائض الإسلامية والشعائر الدينية من مسجد في لندن ولكنها لم تتعود علي الصيام وخاصة ان حالتها الصحية لاتساعدها علي ذلك( گەلاوێژ: 59).وعند عودة حسن مع عائلتها الي لندن وبصحبة اخته،ثخشان، التي كانت تساعد جيني في اكثر من وقت بوساطة معرفتها للغة الانجليزية،تظهر ملامح الاختلاف جليا من حيث حركية الحياة ودور المرأة في العمل والحياة انك تحسبين نساء لندن كنسوتنا اللائي يبقين في الفراش بعد الولادة لايام واسابيع،وتتنافس قريباتها في صنع الحلوي اللذيذ لها وطعامها ثم يقمن لمولدها الحفل الأسبوعي،قبل ايام رأيت امرأة شابة في السوبر ماركيت كانت قد خرجت من مستشفي الولادة قبل يومين مع ذلك اضطرت القيام بالتسوق بنفسها(گەلاوێژ: 93- 94).ثم عدم انسجام ثخشان الأخت لمثل هذه الثقافة الغربية، اذ سرعان ما تشعر بالغربة والفراغ.يقول السارد علي لسان ثخشان قائلالم يكن نوم ثخشان مريحا في ليلتها الأولي رغم مكان نومها كان قد تغير وهو بحد ذاته يؤثر علي نومها(گەلاوێژ: 80).ولكن علي الرغم من الإختلافات الا أن عائلة حسن،في السليمانية، تحاول إستيعاب هذا الإختلافوكذلك جيني التي هي ايضا بدورها كانت تحاول التأقلم مع الحياة الجديدة وهي تحترم الأهل وعلي وجه الخصوص اته خان وثخشان.فمثلا تقول اته خان بشأن جيني قائلةانها غريبة علينا ان نحترمها .هي كنتي وبمثابة ابنتي بعيدة عن اهلها ولاتعرف لغتنا،علينا مراعاتها علي احسن الوجه(گەلاوێژ: 45).وان جيني ايضاقد بدأت بالتعود علي حياتها الجديدة وتشعر بمعزتها لدي اهل حسن(گەلاوێژ: 45).
فعل الإكتشاف.
يتم العامل الإكتشافي عن طريق التقارب من الأخر أوالغربة أو التنافر كما يأتي:
حالة التقارب من خلال الفعل المساعد في اطار مكاني وزماني للأنا والأخر. فأن الذات تلقي دعما وتشجيعا لإنجاز الموضوع والأستقرار من خلال شخصية أخت حسن (ثخشان) التي،كما ذكرنا انفا،كانت دوما تساعد جيني وتحب الأطفال.وعندما عادت الي لندن مع زوجها واطفالها وبرفقة ثخشان وهي قد قدمتها الي والدتها وشقيقتها هذه هي الفتاة الطيبة التي كانت خير عون لي والتي طالما حدثتكما عنها وانها لم تكن تفارقني ابدا (گەلاوێژ:79).ثم ان اته خان نفسها وفي اوقات ومناسبات عدة كانت تحاول ان تسيطر علي مبدأ الأنقطاع والانفصال وساعدت كثيرا جيني علي الرغم من انها بداخلها غير راضية بزواج ابنها لفتاة اجنبية.فعلي سبيل المثال،ان اته خان،رغم التزامها الديني القوي،الا انها هاجمت صوت المؤذن اثناء صلاة الفجر الذي جعل طفل جيني ان يبكي من الخوف لانه لم يتوعد ذلك في بلده وقالت ان الطفل علي حق.هل ضروري ان تكون الاذان عبر مكبرات الصوت وبهذا الشكل المزعج واقلاق راحة الاطفال،لست ادري هل كان هناك مايكروفون في زمن النبي محمد (ص)؟.في لحظة واحدة عشرات المآذن تبدا ببث الاذان وعبر مكبرات الصوت وفي هذ الوقت الباكر(گەلاوێژ: 34).من اجل التقرب اكثر،نري ان ميرزا علي (والد حسن)، في محاورة مع زوجتها اته خان،يحاول تخفيف التوتر بسبب زواج جيني لأبنه ومن ثم ملء الفجوة المكانية والثقافية،اذ يقول اصبري انها مع الزمن تتغير وستتألفان معا ولا تنسي الدموع التي كنت تذرفينها في غياب ابنك والأن لقد عاد مع زوجته وبذلك تحقق حلمك (گەلاوێژ: 49).
_حالة الغربة والحنين :
تحتل ظاهرة الغربة المكانية والحنين الي الوطن مساحة واضحة في هذا النمط من القصص ،وهذا مما وجدناه عند جيني في موطن زوجها ،وأخت حسن عندما سافرت بصحبتهم في زيارة مؤقتة للندن فقد نجد من خلال الزيارة اكتشاف الأخر بطريقة أخري ليس عن طريق نموذج جيني رمز الغرب بل عن طريق الزيارة المؤقتة لثخشان الي لندن او الفضاء المكاني للأخر رباه كم هو الفرق الشاسع بيننا وكم هي شقة الإختلاف بين عاداتنا وتقاليدنا وسلوكنا مع عاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم( گەلاوێژ: 81) .كما في تعامل الأجانب مع الحيوانات مثل الكلاب وكيف ان ثخشان تعجبت من سلوكهم مع الكلاب لكم استغربت واندهشت حين كنت اري ريتا الأم وسوي الأخت وطفلي حسن يقبلون الكلب ويلمسون وجهه وانفه المبلل اوه اماه كنت اود ان اتقيأ(گەلاوێژ:81) ثم مشاعر الغربة التي انتابتها ولماذا يكون تفكيري منحصرا بهم ، الم اذهب الي لندن الحلوة العجيبة للاستمتاع ؟مع هذا فقد اميل الي شوارعنا العوجاء وازقتنا المتربة والريح العاتية التي تهب علي مدينتنا بعد فترة واخري والتي لقسوتها سميت بالرياح السوداء (گەلاوێژ: 84). علي الرغم من زيارتها واكتشاف أماكن ثقافية وفنية مثل متحف الشمع وزيارة قصر البرلمان الانجليزي الذي يعد تحفة نادرة وقصر (باكنكهام بالاس) (گەلاوێژ:82) الا انها تشعر بالحنين للأهل وتبين لها مشاعر جيني حينما تكون في الشرق كانت جيني علي حق حين كانت الكابة تظهر عليها احيانا الان فقط اشعر بما كانت تعانيه ولم يمض علي بقائي سوي عشرة ايام في الغربة مع ذلك اشعر بشوق بالغ الي امي وابي وقريباتي وصديقاتي (گەلاوێژ:83). مازالت جيني تتوق الي لندن وتتذمر احيانا بحيث يشعر من حولها انها ليست سعيدة عندنا فهي دائمة الكابة(گەلاوێژ: 91).ولكنّ الفارق بين ثخشان وجيني أن زيارتها الأولي زيارة مؤقتة وأما جيني فوجودها دائمي في مدينة زوجها حسن وإن كانت تذهب في زيارات الي أهلها في العطل والمناسبات .بفعل الغربة ثم الانفصال لمدة معينة،نجد ان جيني سعيدة جدا بمجي او قدوم الربيع لأنها قريبا وبعد انتهاء الدراسة ستعود الي أهلها كان قد مضي من الربيع اكثره،وبخشان منهمكة في التهيوء للامتحانات وجيني فرحة لان العطلة الصيفية ستبدأ وهذه تعني اقتراب سفرها الي انكلترا كما وعدها حسن بذلك...كانت جيني قد اشترت هدايا لامها ولشقيقتها واقربائها وكانت فرحة جدا بحيث لا يسعها الدنيا من الفرح والضحكة لا تفارق شفتيها(گەلاوێژ: 56- 69).
حالة التنافر من خلال الفعل المعاكس في المكان الأنا وانعكاساتها المختلفة، فالذات تلقي المعارضة لاعاقتها للفعل الأنجازي والوصول الي اللااستقرار مصحوبة بالتوتر وخاصة العادات والتقاليد وحتي اللغة المختلفة وهمسات نساء المجتمعوعدم التأقلم مع الحياة الجديدة وتوق جيني للرحيل الي مدينتها . انكنّ لكثرة اشتياقكن للحديث عن الناس واختلاق الحكايات عن الأخريات لايرتاح بالكنَ الا اذا تحدثن عن سيرة الناس(گەلاوێژ:120).عندما سافرت ثخشان الي لندن بصحبة حسن وعائلته نري بوضوح رد فعلها تجاه العادات والتقاليد الأنجليزية التي لم تتلائم مع حقيقة عاداتها الشرقية بصورة عامة والمجتمع الكردي بصورة خاصة.عندما كانت في لندن،تقول ثخشانرباه..كم هو الفرق شاسع بيننا! وكم هي شقة الأختلاف بين عاداتنا وتقاليدنا وسلوكنا مع عاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم( گەلاوێژ:81).اما بزيارة بيت سردار بلندن،احد اصدقاء حسن والمتزوج بامرأة كردية من اهلها، السليمانية،نجد انها مفرحة لكونها لم تشعر بالغربة لأن هذا البيت،بنظرها،بمثابة الوطن المصغر لهاوا فرحتاه !البيت كردي خالص فضلا عن جماله ،عدا هذا الاستقبال الحار،وحين وطئت قدماها داخل البيت شمت رائحة المطبخ الكردي وعادت الي منلوجها الداخلي(گەلاوێژ:87).حتي أن أم جيني الضيفة حينما جاءت للزيارة الي مدينة السليمانية كانت تثير الدهشة وفضول النسوة في المجتمعمن حيث التباين في السلوك والعادات والتقاليد بينها وبينهم.
من خلال هذا العرض والتحليل السيميائي السردي لقصة(كنَة اته خان)الطويلة قد تبيَن لنا مايأتي:
- الأنا والأخر من حيث العوامل والأفعال والحالات والتحولات وتمفصلاتها المتنوعة الدلالات المنعكسة علي الذات والموضوع ومن خلال أفعال الرحيل المتمظهر في حالات الإنفصال والإتصال والتلاقح الحضاري والرفض والقبول ، وأفعال العودة المتضمن لحالات الإنتظار والترقب و الوصول وثقافة الإختلاف ،وأفعال الإكتشاف المتمثل في حالات التقارب والغربة والحنين والتنافر .
- ان علاقة الأنا والأخر هي متنوعة،بل مختلفة.تارة ضدية لعدم الأنسجام والملائمة بينهما لأسباب مكانية واجتماعية.وتارة اخري تشابهية لأنه ليس بالأمر المستحيل تقارب الأثنين لأسباب انسانية ومثالية علي الرغم من اختلاف الأبعاد المكانية والأجتماعية.واخيرا نجد ايضا نوعية اخري التي تتمثل في العاطفية دون اللجوء الي الأبعاد المكانية والأجتماعية كالعادات والتقاليد.من هنا تستمر العلاقة بنوع من التوتر والقلق النفسي وربما ستأتي النتيجة، بالنهاية، اما بالانفصال او الأتصال.
المصادر والإحالات:
- جوزيف كورتيس، مدخل الي السيميائية السردية والخطابية ، ترجمة جمال حضري ،منشورات الإختلاف ،الجزائر ،ط1، 2007.
- سعيد بنطراد (أ)،السيميائيات السردية ،منشورات الزمن،الرباط،2001.
- سعيد بنطراد (ب)،سيمولوجية الشخصيات السردية:رواية الشراع والعاصفة لحنا مينة نموذجا. دار مجدلاوي،عمان،الأردن،2003.
- سعيد بو عيطة ،المرجعية المعرفية للسيميائيات السردية ، مجلة سمات،البحرين ،العدد 1،ايار،2013 .
- غاستون باشلار : جماليات المكان ،ترجمة غالب هلسا ،ط3،المؤسسة الجامعية ، بيروت،1987.
- غريماس،في المعني( دراسات سيميائية)،تعريب نجيب غزاوي،مطبعة الحداد،اللاذقية،سوريا،2000.
- كلاويز صالح فتاح،كنَة اته خان،قصة كردية طويلة، ترجمة الكاتبة،مراجعة مصطفي صالح كريم،مؤسسة حمدي للطباعة،2008.
- محمد ناصر العجمي ، في الخطاب السردي (نظرية غريماس)، الدار العربية ،تونس ،1991.
- ميشال اريفيه واخرون ،السيميائية أصولها وقواعدها، ترجمة: رشيد بن مالك، منشورات الإختلاف،الجزائر،2002.[1]