#عزيز الحاج#
في المقال السابق تحدثنا عن أن تشويه مفهوم ومحتوى العلمانية جرى من جانب أطراف عديدة، لاسيما الإسلاميين، ولكن أيضا من جانب حكام مستبدين خطفوا بعض مواصفات العلمانية بعد تشويهها. ويتساءل معقب فاضل عن تصنيف تلك الأنظمة كأنظمة القذافي ومبارك وبن علي وعلي عبد الله صالح والأسد وصدام وأمثالها؟
في رأيي أن لكل من هذه الأنظمة طبيعته الخاصة وخصائصه ومراحل تطوره والمحيط الذي قام فيه، داخليا وخارجيا. وأرى أنه لا يمكن مقارنة بن علي ومبارك مثلا بالقذافي وصدام وبشار الأسد برغم وجود بعض المشترك وهو التحكم واللاديمقراطية. بن علي ومبارك لم يكونا دكتاتوريين دمويين شموليين، يظلان متمسكين بالسلطة ولو فوق جماجم شعب وخراب بلد، ولكنهما كانا حاكمين فرديين، ويشوب الفساد أفرادا من عائلتيهما، بل إن حسني مبارك في سنواته الأخيرة، وهو مريض، لم يكن وحده يحتكر الحكم. هذان الحاكمان تركا السلطة بعد مقاومة قصيرة كما نعرف. وكان حكم كل منهما قد مر بأطوار ومراحل تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن بعض، وكان الأسوأ سنواتهما الأخيرة. كلاهما حارب الإسلاميين والإرهابيين، وحقق تقدما اقتصاديا لا بأس به، وكانت ثمة بعض الحريات النسبية، ولكنهما عجزا عن تحقيق العدالة الاجتماعية لصالح الجماهير، وعن عدم الوقوع في براثن سوء استغلال السلطة. وإذا كان بن علي قد ظل حازما في مناهضة التطرف الإسلامي، فإن مبارك طارد غلاة التطرف بينهم، وزور آخر انتخابات في عهده على حساب الإخوان المسلمين، بينما كان يسمح لهم بالتغلغل في القضاء والتعليم ومختلف مجالات الحياة الاجتماعية، كما وقع في فخ التوريث.
وهكذا حين نأتي لتشخيص بقية الأنظمة مارة الذكر؛ فكل يختلف عن الآخر، ولكن لا يمكن الحديث عنها بكونها أنظمة علمانية، مثلما لم تكن أنظمة دينية يحكمها الإسلام السياسي، ولكنها أنظمة هجينة تحمل سمات مأخوذة من هنا ومن هناك في تشكيلة خاصة. بعض هؤلاء الحكام كانوا فرديين متسلطين، والآخرون دكتاتوريون دمويون شموليون، كصدام والأسد والقذافي، ولا يتحملون حتى النكتة السياسية فيطاردون من يرددها. وعلى كل، فهذا موضوع واسع ولا مجال هنا للتوسع فيه.
إن معوقات العلمانية والديمقراطية في العراق والعالم العربي هي أولا وخاصة تدوير الدين واستخدامه سياسيا وتضليل الشارع بالفتاوى التي تنظر للمرأة كأداة جنس وإبليس إغراء، وتنشر كراهية غير المسلمين، وتحارب حرية التفكير والضمير والتعبير. وآخر الأخبار عن فتوحات الإسلاميين في بعض دول ما يدعي بالربيع العربي، أعمال عدوان جديدة ضد أقباط مصر، واعتبار بعض النواب الإسلاميين أن الموسيقى محرمة مثل الزنا، وقتل اثنين من أعضاء فرقة موسيقية في محافظة بالدلتا سبقه اضطهاد أصحاب محلات بيع الآلات الموسيقية في القاهرة نفسها. وكان البرلمان السابق قد وضع ضمن برنامج عمله محاكمة أفلام الستينات والسبعينات بحجة أن فيها مواد إباحية. ولا ننسى الحكم على عادل إمام وحملات التشهير والتحريض ضد آخرين من مفكرين وكتاب وفنانين. وثمة كثير آخر. ومثل ذلك في تونس، التي نعرف كيف جرى الاعتداء على معرض للرسم، وكيف غضت حكومة النهضة النظر، وبدلا من ذلك راحت تتحدث عن احترام المقدسات. وقبل أسابيع قامت مجموعة سلفية مسلحة بالسلاسل والسكاكين ومفكات البراغي بمهاجمة مسرحيين. والأدوار موزعة: السلفيون ينفذون الجريمة وحزب النهضة صامت. وتقول الكاتبة اللبنانية عايدة الجوهري في مقال بصحيفة الحياة: لا قيمة للحرية السياسية التي تفاخر بها الأنظمة العربية الجديدة، والتي استندت إليها لاعتلاء سدة الحكم ما لم تترافق هذه الحرية بحريتي التعبير وإدارة الحياة الشخصية. أما في عراق اليوم، فقد سبقنا هؤلاء في المحظورات، والتدخل في خصوصيات المواطن، باسم الأعراف والقيم الأخلاق والمقدسات [*]، واستطاعت الأحزاب الإسلامية الحاكمة أن تحول الدولة لشبه ملحق بالمسجد والحسينية، وإلى مستنقع فساد، والمالكي يفاخر بكونه عدوا للعلمانية والحداثة. وإذن، فما معنى الانتخابات المتكررة وما يسمونها بالعملية السياسية!! وعن أية ديمقراطية يتحدثون!!
إن التزمت والتطرف الإسلاميين يلاحقان العلمانية حتى في دول الغرب الديمقراطية. وتتزايد مطالبات المسلمين باستثنائهم من هذا القانون أو العرف العلماني والديمقراطي السائد، أو ذاك، كالمطالبة بالسماح بالنقاب حتى في المطارات وعند استجواب البوليس، وإعفاء التلميذات من دروس الرياضة، وعزلهن عن التلاميذ في الحمامات، وفرض أن يكون طعام التلاميذ المسلمين من اللحم الحلال، وإعفاء الطلبة المسلمين من بعض الدروس كالتي تتناول المحرقة مثلا، أو تبحث في أفكار مفكر كفولتير أو دارون؛ وهكذا. ومن بين مختلف الجاليات المهاجرة في الغرب، فإن الجاليات المسلمة هي وحدها التي تبرز بينها المطالبات بامتيازات خاصة بحجة وجوب احترام اختلاف التقاليد والعقيدة والخصوصية، والحقيقة، فإن ما يراد هو الاعتراف بالتفاوت والاختلاف في الحقوق بالنسبة لجميع الآخرين، أي نقض مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. وهذه الظاهرة المتصاعدة تشجع الأفكار والتيارات العنصرية. وهي، أي هذه الظاهرة، تقلق أوساطا واسعة من المواطنين الغربيين، وتحمل بعض المحللين والباحثين على أن ينبهوا ويحذروا من خطر تغيير قادم في طبيعة الأنظمة العلمانية الديمقراطية. وفي 2009 أصدر المؤلف الأميركي الموضوعي كريستوفر كولدويل كتابا ضخما، معززا بالوقائع والمعلومات والأرقام، عن خطر وقوع ثورة تغيير اجتماعية وقانونية إسلامية قادمة في أوروبا تشوه وتنخر علمانيتها وديمقراطيتها. ولكن صوتا كهذا نادر بين الأوروبيين، الذين يخشون تهمة الإسلامفوبيا فلا يتحدثون إلا باستحياء وبتردد، أو همسا. وحين ترجم كتاب كولدويل للفرنسية هذه السنة، فإن الصحافة لم تشر إليه ما عدا واحدة أو اثنتين.
مع كل هذا، فإن الإسلاميين ورجال الدين المسلمين يغذون بين مسلمي الغرب عقدة المظلمومية وكونهم هدفا للتمييز الديني والعنصري، وأن الغرب لا يراعي خصوصيتهم الثقافية، والقصد –مثلا- تزويج القاصرات، ولبس النقاب، والصلاة في الشوارع العامة وما شاكل ذلك. ونعرف أن بيننا نحن يوجد العدد الأكبر ممن يكره الآخر، وينظر له نظرة دونية أو كعدو. وحين يعتبر بيننا من يعتبرون أن حرية الضمير والتعبير إثم، فهناك نزعة لفرض هذا الموقف على الآخرين أيضا، كإدانة كتاب غربي ما أو تهديد وقتل رسام أو فنان أو كاتب غربي بتهمة الإساءة للإسلام، بينما شتم غير المسلمين وأديانهم مباح على ألسنة بعض أئمة المساجد عندنا.
إن العلمانية في الغرب تضمن حرية مختلف العقائد، الدينية منها وغير الدينية، باستثناء ما يتعرض للقانون كالتحريض العلني على العنف تجاه هذه الشريحة و تلك. والعلمانية تفسح صدرها الواسع للمتدينين ولغير المتدينين. وهذا مالا يمكن أن تستوعبه غالبية المسلمين العظمى، التي تبيح قتل المسلم الذي يغير دينه، فكيف بغير المتدين!! وحين تنص الدساتير العربية والإسلامية، ومنها الدستور العراقي، على أن الإسلام هو المصدر الرئيسي أو الأساسي للتشريع، فهذا يعني الأخذ بأحكام الشريعة وهي مناقضة للعلمانية وللإعلان الدولي لحقوق الإنسان والديمقراطية. واقرؤوا معي ما ورد في ديباجة الإعلان العربي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الحكومات العربية في القاهرة في آب 1990 عما يسميه الإعلان ب الدور التاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة ومنوطا بها هداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وذلك بتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة!!؟ وأقول لهم ولهذا صرنا في مقدمة شعوب العالم تقدما وعطاء حضاريا!!
أجل، يجب القول بوضوح ومرارا بأن مرجعية أحكام الشريعة على تناقض تام مع مرجعية حقوق الإنسان والديمقراطية ومبدأ المواطنة. وإذا تركنا جانبا العقوبات البدنية التي تمر الإنسان وتهين كرامته، فإن أحكام الشريعة تعني التمييز ضد المرأة في مسائل الزواج والطلاق والميراث، وحظر زواج المسلمة من غير مسلم، ومعاداة حرية العقيدة حين يستحق من يغير دينه القتل. فالدين هو علاقة المتدين مع الله، ولا يجب أن يتدخل في تفاصيل حياة الإنسان كما يفعل الفقهاء وحتى من لم يدرسوا علوم الدين. وحين يتغني البعض بدولة الخلافة ويحنون لها، وكيف أسس المسلمون دولة قوية واسعة، فإن ما يجري تناسيه أن ذلك جرى بحد السيف وأخذ السبايا وتحويل الكنائس لمساجد. ولا تزال كتب التاريخ العربية تتغنى ببطولات طغاة كان واحدهم ينتشي حين يخاطبه الشاعر
ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهارُ
وقد نفذ معظم الخلفاء الأمويين والعباسيين من المجازر المروعة ما تعتبر كل منها جريمة بحق الإنسانية. وإذن فكيف يمكن أن نواجه العلمانية، التي تفتح دروب الحرية والتقدم والتآخي البشري، بحركات إسلامية تنظر للماضي ولا تعترف بمبدأ المواطنة، ولا بالوطن والشعب حين تروج لكون مسلمي العالم هم الأمة، ولسان حال هذه الأفكار ما تفوه به مهدي عاكف، المرشد السابق لإخوان مصر: طز في مصر، وأنه يقبل رئيسا مسلما من ماليزيا ويرفض رئيسا مصريا قبطيا! وحاملو هذه العقليات يدينون أفضل ما في التاريخ الفكري والثقافي والعلمي العربي والإسلامي، كإدانة ابن رشد والمعري وابن سينا والفارابي وأمثالهم، مثلما أدانوا ويواصلون إدانة النخب الفكرية والأدبية والإبداعية العربية المعاصرة كطه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى ونجيب محفوظ والعشرات من أمثالهم من الأفذاذ .
الحوار المتمدن في 7-6 -08- 2012
[ * عندما أغلق المالكي النوادي الليلية عام 2008 جاء التبرير هكذا: نعم هناك حرية للرأي والتعبير، ولكن هناك قيما متعارفا عليها وآدابا ونظاما...ألخ[1]