#علي شمدين#
لقد كان وجود مام في الشام فرصة تاريخية وفرت له شبكة من العلاقات الهامة مع الوسط العربي، والتي تتوجت بتلك الصدفة التي قادته إلى القاهرة عام (1963)، ممثلاً عن الكرد ولقائه مع الزعيم العربي جمال عبد الناصر، فتتالت اللقاءات بينهما فيما بعد، وتمكن من جذب انتباهه وكسب وده والتأثير في موقفه من القضية الكردية في كردستان العراق وإقناعه بأهمية حلها سلمياً عبر الإقرار بصيغة الحكم الذاتي ضمن العراق الموحد، الأمر الذي ترك تأثيره العميق بين فئات سياسية وثقافية عربية واسعة، وساهمت في توضيح الصورة الحقيقية للقضية الكردية لديها، ودفعتها نحو إعادة النظر في مواقفها السلبية المسبقة من القضية الكردية التي كانت تصفها ب(الإنفصالية، وبإسرائيل الثانية..).
وفي هذا الإطار، يقول مام جلال في كتاب (لقاء العمر): (حينذاك- أي عند لقاء مام جلال بعبد الناصر- كان المسؤولون السوريون شباباً، وكما أخبرني بعضهم فيما بعد بأنهم كانوا فرحين جداً عندما التقيت بالرئيس عبد الناصر، وقالوا بأنهم كانوا يقرأون اسمي في الصحف: جلال الطالباني يلتقي عبد الناصر..)، وكان الضابط في القوى الجوية السورية آنذاك، المقدم حافظ الأسد (1930- 2000)، هو أحد هؤلاء الشباب الذين سرهم لقاءات مام جلال مع الزعيم عبد الناصر في القاهرة، وكانت هي المرة الأولى التي يسمع فيها باسم مام جلال من خلال الصحف التي نقلت خبر هذا اللقاء التاريخي على صدر صفحاتها، ويصرح الأسد بنفسه لمام جلال في إحدى لقاءاته معه بأنه فرح بذاك الخبر، وينقل مام جلال في مذكراته (لقاء العمر)، عن لسان الأسد قائلاً: (التقيت ذات مرةً بالرئيس حافظ الأسد، وقال لي: أنا كنت ضابطاً برتبة مقدم في القوة الجویة حین زرت أنت عبد الناصر وقرأت الخبر في الصحف، أنت صدیق للعرب ومؤید للعلاقة العربیة الكردیة، وما تفعله سیكون له تأثیر إیجابي على العلاقات الكردية- العربية..).
حتى ذاك الحين، لم يكن مام جلال قد سمع بعد باسم حافظ الأسد الذي بدأ اسمه يتردد على الألسن خلال الأحداث التي أدت إلى الإعلان عن الإنفصال في (28-09-1961)، حيث تم حجزه في القاهرة لأكثر من شهر، مع عدد من الضباط البعثيين السوريين الذين كانوا متواجدين هناك حينذاك، بعد أن وقع حزبهم (البعث)، مع بعض الأحزاب السورية الأخرى على وثيقة الانفصال، وبعد إطلاق سراحهم وعودتهم إلى سورية يتم إبعاد هؤلاء الضباط عن الجيش السوري وإحالتهم إلى الخدمة المدنية في إحدى الوزارات نتيجة لموقفهم الرافض للإنفصال..
فقد كان حافظ الأسد آنذاك، هو أحد الضباط الخمسة الذين شكلوا معاً اللجنة العسكرية في فرع سوريا لحزب البعث العربي الاشتراكي، وظلوا ينظمون صفوفهم بشكل سري رافضين حل حزبهم، مطالبين بإعادة الوحدة مع مصر، إلى أن نجحوا في تنفيذ إنقلابهم ضد حكومة الإنفصال في (08-03-1963)، وفي هذه الأثناء بادر صديقه ورفيق دربه في اللجنة العسكرية (صلاح جديد)، إلى إعادته للسلك العسكري، وترقيته إلى رتبة لواء في عام (1964)، ومن ثم تعينه قائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي، وفي الأخير قيامه بحركته التصحيحية في (16-10-1970)..
بدأت اللقاءات تتالى بين مام جلال وحافظ الأسد، وتتعزز العلاقات بينهما فيما بعد شيئاً فشيئاً، وكان اللقاء الأول في عام (1967)، خاطفاً من دون تعارف مباشر وذلك عندما التقاه في الشام ضمن الوفد العراقي العائد من ندوة الاشتراكيين العرب التي عقدت في الجزائر، وكان حينذاك لا يزال وزيراً للدفاع.. بينما كان اللقاء الرسمي الأول عام (1970)، حيث يتحدث مام جلال عن هذا اللقاء في مذكراته (لقاء العمر)، كما يلي: (أول لقاء بیننا كان قصیراً، وقد جرى بالصدفة عام 1967، وأول جلسة للحدیث كان عام 1970، ففي طریق سفري إلى بیروت منعوني عند نقطة تفتیش الحدود من العبور، فرجوتھم أن یسمحوا لي ولو بمرور الترانزیت لكنھم لم یقبلوا، وقالوا یجب أن تبقى ھنا إلى الصباح، ثم تعود أدراجك إلى العراق..)، ويقول مام جلال بأنه بينما كان ينتظر، مرت في تلك اللحظة من أمامه سيارة لمنظمة التحرير الفلسطينة (فتح)، تحمل طبيباً فلسطينياً كان يعرفه، فجاء إليه الطبيب ليسلم عليه ، ويسأله: (لماذا أنت واقف هنا؟)، فأجابه مام جلال عن وضعه بالتفصيل، واستغل الفرصة وحمله رسالة إلى حافظ الأسد الذي كان حينذاك لا يزال رئيساً للوزراء، ويقول مام جلال بأنه حينها لم يكن يحمل معه أية ورقة لكي يكتب عليها الرسالة، فيأخذ علبة السكائر (الجمهورية)، ويخرج من داخلها ورقة بيضاء، ويكتب إليه عن وضعه ويخبره بأنهم منعوه على الحدود من الدخول لأنه ومنذ عدة سنوات يوجد عليه قرار (منع الدخول)، ويطلب منه أن يصدر أمراً برفع الحظر عنه لكي يتمكن من متابعة رحلته إلى لبنان.
ويتابع مام الحديث عن هذه الحادثة في كتاب (لقاء العمر)، ويقول بأنه بقي محجوزاً هناك من الصباح حتى بعد الظهر من دون أن يتناول شيئاً، وظل يتمشى ذهاباً وإياباً بينما حقيبته ملقاة على الأرض،
حتى أنهم لم يسمحوا له بالجلوس في غرفتهم، ويقول مام جلال في نفس الكتاب: (وفجأة جاءالرجل المسؤول الذي كان یعاملني قبلا بتكبر وعنجھیة، وصاح علي: أستاذ جلال الطالباني، فتيقنت بأن شیئا حدث، وبأن رسالتي وصلت، فأجبته بخیلاء: نعم تفضل، قال المسؤول: تفضل بالدخول إلى الغرفة، إن السید رئیس الوزراء قد أمر برفع المنع عنك، وقال لینتظر، وسوف أرسل له سیارة خاصة لتقله، ولم تمض مدة حتى جاءت سیارة مرسیدس وأخذوني إلى فندق سمیر أمیس في الشام لأحل ضيفاً على رئيس الوزراء..)، وفي صباح اليوم التالي يلتقي مام جلال برئیس الوزراء (حافظ الأسد)، ليكون ذلك هو اللقاء الرسمي الأول بينهما، ويضيف مام جلال بأن الأسد بادر قائلا: (أھلا بعودتك، أطلب منك أن تبقى ھنا لعدة أیام، فشكرته واعتذرت منه لأشغالي المستعجلة واستأذنته بالرحیل، وكانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فیھا رسمياً وسجل ھذا الفضل علي برفع اسمي من قائمة الممنوعین من السفر..).
وهكذا، بدأ مام جلال ببناء علاقات راسخة مع الرئيس السوري (حافظ الأسد)، ويقول مام جلال: (من أحد أفضاله علینا أنه في أول مؤتمر لحزب البعث، عقب الحركة التصحیحیة التي قادھا، أقراره بالحقوق القومیة للشعب الكردي في كردستان العراق، وقبوله بالحكم الذاتي لكردستان العراق، فقبله لم یكن أحد یجرؤ بالتحدث عن الحقوق المشروعة للشعب الكردي وإنما كانوا یقولون بأن الكرد یسعون للانفصال عن العراق وتقسیمه، وبأنھم أعداء الأمة العربیة..).[1]