#عزيز الحاج#
ليس صحيحا في رأيي أن اندماج المؤسستين الدينية والسياسية في عهود الخفاء العرب، من أمويين وعباسيين، كانت إيجابية، بل العكس هو الصحيح. فباستثناء فلة نادرة من الخلفاء، لم تشهد تلك العصور عدلا ومساواة وتسامحا سياسيا، وسجلات الكثيرين منهم عامرة بالمذابح الرهيبة والجرائم البشعة، وقصور الحريم، والعدوان على الآخرين وفرض الجزية على غير المسلمين. وإذا كانت قد نشأت دولة مترامية الأطراف، فإنما بتلك الأساليب والحروب والغزوات. أما ما تحقق في بعض المراحل من تطور فكري وعلمي، فقد كان في الأساس نتيجة تأثير الفكر اليوناني والتلاقح مع حضارات شعوب أخرى، وإن خيرة ما أنتج في تلك العصور لم تسلم من التهميش والإدانة بتهم الزندقة وغير ذلك. ولحد اليوم لا يعترف المتطرفون الإسلاميون وشيوخهم كالقرضاوي وشركاه، بتراث أمثال بن رشد والمعتزلة مثلا، إن لم يعتبروه كفرا. إن البئية والعقلية البدويتين ومرجعية أحكام الشريعة غير مؤهلتين لإنتاج غير الاستبداد والعنصرية وامتهان المرأة، وخنق حرية الرأي والضمير، واحتقار الآخر، غير المسلم.
وفي العصر الحديث، منذ أواخر القرن التاسع عشر بوجه خاص، تغلغلت تدريجيا في عدد من البلدان العربية أفكار جديدة وتطلعات نحو الانفتاح على الحضارة الغربية المتقدمة، وكان للوجود النابليوني والبعثات المدرسية للغرب دور كبير في ذلك التطور. وقد نما ذلك وتسارع مع بداية القرن العشرين ثم أواسطه، وصاعدا. ولا ننسى أيضا أن الدولة العثمانية نفسها، التي كانت تحتل بلدانا عربية، تأثرت بالغرب هي الأخرى مع أواخر القرن التاسع عشر، ولاسيما في مجال مؤسسات الدولة والقوانين الجزائية.
لو التفتنا للوراء لما كانت عليه الأوضاع السياسية والمجتمعية في معظم البلدان العربية، عدا بعض الدول الخليجية، منذ الثلاثينات وصاعدا، لوجدنا عددا من عناصر ومفردات العلمانية وذلك بالاقتران بالتحديث. كان ذلك واضحا في قيام المحاكم المدنية وقوانين العقوبات التي تخلت عن العقوبات البدنية وتأثرت بالقوانين الغربية، وفي مجال التعليم، وانتشار العلوم الحديثة والفلسفة، والفنون، والصحافة، والسينما، وسفور المرأة، والتنظيمات الحزبية [ على أسس سياسية لا دينية]، والفصل بين السلطات. ولم تكن المؤسسات الدينية تتدخل في شؤون الدولة برغم تدخلها أحيانا هنا وهناك في مجال حرية الرأي عندما تتهم هذا الكتاب أو ذاك ضد الإسلام- كما حدث في مصر مع علي عبد الرازق وطه حسين في أواسط العشرينات.
لقد تطورت تلك المفردات والعناصر برغم النواقص والعيوب، والديمقراطية المشوهة بحيث أن تلك الأنظمة كانت شبه علمانية، أو بعلمانية مشوشة. والفضل لم يكن في التربة الاجتماعية والبنية الفكرية العربيتين، وإنما في التماس مع الغرب والتلقي منه في مناسبات وبطرق مختلفة. ومع غزو أفغانستان وثورة خميني، بدأ العد العكسي يفعل مفعوله بسرعة لتعود الأمور تدريجيا إلى أصولها القديمة، العاصية على الحداثة والتقدم والديمقراطية، وبالطبع على العلمانية. وما حدث لدول الربيع العربي، ويحدث، جاء تأكيدا صارخا جديدا على أن معوقات العلمانية والديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي هي معوقات متأصلة ومزمنة، ما لم يقع زلزال تنويري وتثويري صادم يهز كل البنى الفكرية والاجتماعية، والمؤسسات الرجعية هزا، كما هزتها في حينها حركة كمال أتاتورك، وطبعا مأخوذة بزمنها وظروفها، وبرغم كل نواقصها العديدة التي قد نتوقف عندها. و ثوار اليوم لا ينقضون على الحاكم ونظامه وحسب، بل ويجهزون أيضا على كل ما كان من بعض الإيجابيات الاجتماعية.
يقال إن العلمانية في الغرب جاءت دوما في مجرى الصراع بين السياسة والمؤسسات الدينية. هذا قد يصح على بعض دول الغرب، وخاصة فرنسا، ولكنه لم يكن القاعدة العامة. فالعلمانية الأميركية لم تأخذ نفس المجرى، وكذلك مع دول أخرى. وبرغم ما كان في بريطانيا من توترات دينية فإن مجرى الأحداث لم يكن كالمجرى الفرنسي. وملكة بريطانيا اليوم هي أيضا رئيسة الكنيسة، ولكن دون أن تتدخل هذه في شؤون الدولة. وسوف نمر بسرعة عند تنوع تطبيقات العلمانية في الغرب لتوضيح هذه الإشكالية. فإلى المقال التالي..[1]