لا وجود للكورد في التاريخ ؟
د. محي الدين عثمان
إن دراسة أصل الكورد و أسلافهم لهي مسألة معقدة بكل تاكيد بسبب طبيعة تشكل الكورد في التاريخ القديم. لكن بنفس الوقت، المسألة الكوردية لم تأخذ حقها من الاهتمام الجدي من قبل الباحثين. نعلم بأن الكورد أثناء الفتح الإسلامي كانوا مسبقاً مُشكلين بالصورة التي هم عليها الآن تقريباً. و هي الصورة التي وصفتها أغلب المصادر الأسلامية لغاية الفترة العثمانية. بالاعتماد على المصادر الكلاسيكية، يمكننا قول نفس الشيئ تقريباً. لكن، ماذا عن الألف الأول و الثاني و الثالث ق.م؟ الأبحاث التي تمت في القرن الماضي، ركزت بشكل أساسي على الأصل أو المنشأ الخارجي للكورد. لكن هذه الدراسات أهملت مسألة مصير السكان المحليين الزاگروسيين و الطوروسيين الشرقيين (الحوريين و الميتانيين و غيرهم)، فيما لو أعتبرنا بأن الكورد قدموا من مكان ما: فهل تم [إستكراد] السكان المحليين على سبيل المثال؟ هذا من جهة. و من جهة أخرى، تتواجد نصوص كتابية اعتباراً من الفترة الآكادية، تشير لأقوام و مناطقهم بأسماء قريبة من كورد/كارد/قورد/قارد ..إلخ. فهل حقاً جميع هذه الأسماء و الألفاظ الواردة في الكتابات المسمارية لا علاقة لها بالكورد أو بأسلافهم؟ في هذه المقالة، نحاول جمع بعض المعطيات حول هذا الموضوع، و بنفس الوقت نحاول تفسير آليات تشكل أسلاف الكورد.
كلمات أساسية : نصوص و مصادر، كوردا، كاردا، قورتي، قاردا، كورتي، اومان ماندا، زاگروس الأوسط، طوروس الشرقي، هجرات هندوأوربية/آرية، مصير السكان المحليين.
المقدمة :
إن إشكالية تشكل الكورد في التاريخ القديم، و الحديث عنها، لهي مسألة معقدة لأسباب عديدة، منها علمية كحداثة علم الآثار و مناهجه، و اهتمامه بشكل كبير، و لفترة طويلة، بالموضوع السومري و السامي كلغة و آثار، و ذلك نتيجة بدء التنقيبات في مناطق سومر و بابل و آشور. بينما كادت التنقيبات تندر أو تنعدم في سفوح زاغروس و طوروس الشرقي. حيث توجد للآن محافظات و مناطق شاسعة من كوردستان الكبرى لم تطلها التنقيبات (سوف نفهم خلال الفقرات القادمة لماذا استعمل تعبير كوردستان الكبرى). كما و تواجد خطأ منهجي في بعض الأبحاث التي تناولت الموضوع الكوردي خلال القرن الماضي، لأن كتابها راحوا يعتقدون بأن الكورد قد انحدروا من {قوم} {واحد} و بالتالي يتوجب، بحسب رأيهم، البحث عن الموطن الأصلي الذي انتشر منه أسلاف الكورد. تماماً كما فعلوا فيما يخص {أصل} السومريين الذي رده أغلب باحثو القرن الماضي إلى مصدر خارجي غير رافدي[1]، بينما الأبحاث الحالية تظهر و تؤكد على أن السومريين ما هم إلا {أحفاد} حاملو ثقافة اوروك في الألف الرابع ق.م و التي سبقت ظهور السومريين في جنوب الرافدين. و هؤلاء الوركائييون ما هم إلا {أحفاد} حاملو ثقافة العُبيد في الألف الخامس ق.م. في الحقيقة، إن سبب تلك التقديرات الخاطئة ليسوا رواد الآثار في القرن الماضي بحد ذاتهم، بل بالأحرى علم الآثار الذي كان وقتها في بدايات تشكله و تطور مناهجه و مرتكزاته.
كما و توجد أسباب عديدة أخرى تؤرخ على الثلاثة عقود المنصرمة، تقف خلف تأخر البحث بالمسألة التاريخية الكوردية, منها سياسات الحكومات التي يخضع لها الكورد في أجزاء كوردستان، و التي لم توفر وسيلة و طريقة إلا و اخترعتها لمنع أي اقتراب من الموضوع بشكل جدي، لا بل و دعم التزييف {العلمي} من أجل إضفاء حالة من عدم اليقين لدى شعوبها و لدى الكورد على حد سواء، و ترك الموضوع الكوردي بلا أمل. يوجد أيضاً سبب يقف ورائه الكورد أنفسهم، ألا و هو انقسامهم السياسي الغير مبرر، و انقسام لن يحرمنا التاريخ فيه للمرة الألف.
إن تناول الموضوع الكوردي في التاريخ القديم يحتاج لعشرات و لعشرات الصفحات المدعمة بصور و جداول و خرائط و بيانات، و يحتاج أيضاً لتداخل بين علمي الآثار و اللغات، لكي تتم نوعاً ما الإحاطة بعناصر الإشكالية. لذلك ما سوف يرد هو مجرد مقدمة لبحث يتوجب على الكورد المختصين متابعتها منهجياً و علمياً بالاعتماد على هذين العلمين.
إني لأسمح لنفسي عبر هذه الورقة، أن أتوجه إلى المسؤولين السياسيين و الآثاريين في إقليم كوردستان الحبيب، بدعوة لتبني و تأسيس مشروع بحث يضم فريق كوردي آثاري و لغوي، يقود هكذا مشروع ضمن مخبر أو في جامعة من جامعات الإقليم نفسه. فهو مساحة الأمل الوحيدة القادرة على احتضان و تمويل هكذا مشروع بحث.
سوف أعتمد في هذه الورقة على ثلاثة محاور أساسية : 1 إشكالية أصل الكورد؛ 2 لفظ كورد و مناطق كورد في الكتابات المسمارية و المصادر؛ 3 آليات تشكل الكورد عبر التاريخ.
1 إشكالية أصل الكورد :
لا مجال هنا لتخصيص مساحة لتناول أصول الكورد من وجهة نظر القصص و الروايات العربية و الفارسية في القرون الوسطى و التي تارة تكون اسطورية، و تارة أخرى خارجة عن الواقع و المنطق. و لقد تم تناولها من قبل العديد من الكتاب[2].
بحسب النصوص و المصادر، و التي سوف أتناولها في المحور اللاحق، فإن الكورد قائمون و متواجدون بالشكل الاجتماعي و الجغرافي و اللغوي المعاصر و ذلك منذ القرن الرابع ق.م (الفترة الإغريقية) على أقل تقدير. و هنا أعني الكورد في كوردستان و ليس كورد الشتات. لكن ما أن نطرح السؤال عماهية وضع الكورد قبل الفترة الإغريقية، تظهر لنا عدة إشكاليات صعبة التفسير. من هم أسلاف الكورد؛ و كيف تشكلوا؛ و أين نشأوا؛ و لماذا سفوح زاگروس و طوروس الشرقي؛ و ما العلاقة بينهم و بين السكان المحليين في التاريخ القديم؟
توجد عدة آراء، لكنها غير معمقة، حول هذه المسائل، سوف أورد أهمها[3].
1 نظرية الأصل الشمال الغربي من الهضبة الإيرانية : إن أول من قال بهذه النظرية هو المؤرخ الألماني المختص بروما القديمة بارتولد جورغ نيبوهر (17761831). و هو يصف الكورد على أنهم منحدرون من الميديين و الآراميين معاً. لاحقاً قام المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي (18771966) بتبني و تعميم و نشر النظرية. هذه النظرية تعتمد بشكل أساسي على تقديم تفسير ينسب الكورد الى جماعات ناطقة باللغة الإيرانية القديمة مثل الميديين، و ذلك بسبب التشابه اللغوي. بيدَ أن النصوص الميدية هي قليلة للغاية، و رغم معرفتنا بالفنون الميدية، إلا أن الميديون لم يتركوا كتابات بلغتهم، بل تتحدث عنهم النصوص البابلية، و الآشورية، و الفارسية، ثم الإغريقية و الرومانية.
2 نظرية الأصل الشمال الشرقي من الهضبة الإيرانية : و تعود لبداية القرن العشرين (1903) و قد قال بها المستشرق السويسري ألبيرت سوسين (18441899) و الذي يعتبر بأن فكرة هجرة الكورد من الشمال الشرقي للهضبة الإيرانية ممكن توقع حدوثه.
3 نظرية الأصل الجنوب الغربي من الهضبة الإيرانية : و تعتمد على التشابه فيما بين الفارسية و البلوشية/البلوچية و الكوردية في الفترة الممتدة من القرن الرابع ق.م لغاية القرن التاسع الميلادي. بحسب هذا الرأي، فأن الفرس و البلوش/البلوچ و الكورد هم ذوي أصل اثني واحد من جنوب غربي الهضبة الإيرانية. هذه الفكرة أخذت حديثاً بالظهور للسطح في عام 2009 في بحث يعتمد على مقارنات لغوية تم إعدادها على يد گارنيك أساتريان الأرمني الأصل و الإيراني المولد[4]. علماً أن الباحث اللغوي الشهير المختص بالإيرانيات، جيرنوت فيندفوهر، كان قد أعترض على تقدمة گارنيك أساتريان و قال بأنه لا يوجد أية دلائل حول هكذا أصل جنوب غربي.
4 يجب أن أذكر هنا ايضاً النظرية التي تقول بأن الكورد هم ذوي أصول محلية، إما جورجيو الأصل بحسب نظرية المؤرخ و اللغوي نيكولاي ياكوفليفش مار (18641934)؛ أو متحدرين من الگوتيين و اللولوبيين الذين هم بحد ذاتهم سكان أصليين في زاگروس، و قد قال بهذه النظرية الآثاري الأميركي إفرايم افيدور سبايزر (19021965).
نلاحظ أن أغلب هذه الآراء تبحث عن أصل خارجي فقط، متجاهلة مسألة مهمة ألا و هي مصير السكان المحليين فيما لو أخذنا فقط بفكرة الأصل الخارجي لأسلاف الكورد و وصولهم إلى مناطق مسكونة مسبقاً بسكان محليين.
مناقشة الإشكالية :
عدا عن الأطراف {الحدودية}، لا يتواجد في المناطق الكوردية حالياً سوى أغلبية كوردية (أنظر إلى الخريطة المرفقة). إذ قبلنا مناقشة النظرية القائلة بالأصل {الخارجي} لأسلاف الكورد و قدومهم إلى ما سوف يتم تسميته لاحقاً بكوردستان، فإننا ننصدم بعدم توثيق موجة هجرة مُؤثرة {كوردية} في الكتابات و المصادر رغم كثرتها بين أيدينا حالياً، هذا من جهة. لكن في المقابل نجد أن هجرة العموريين، ثم هجرة الأخلامو/الآراميين، هي موثقة في النصوص المسمارية. كذلك هجرة البدو العرب عقب الفتح الإسلامي، ثم هجرة التورك و الأتراك (السلاجقة)، هي أيضاً موثقة لدى العرب، و لدى الترك في المصادر الإسلامية.
إذ افترضنا نظرياً بأنه، و منذ الألف الثاني ق.م و/أو الألف الأول ق.م، كانت قد تغلغلت مجموعات محاربة مرتحلة/متنقلة إلى شرقي أناضوليا و إلى زاگروس، ثم عبرت الجبال و اندمجت بالمجتمع المحلي الحوروميتاني، فلسوف نجد أنفسنا أمام عقدة من الأسئلة الصعبة : ماذا حل بهؤلاء السكان المحليين الحوروميتانيين، و غيرهم، المتواجدون قبل الوصول المُفترض [للكورد]؟ هل انصهر الحوروميتانييون جميعاً ضمن أسلاف الكورد المهاجرين و تبنوا العناصر الكوردية و تم {إستكرادهم}، جميعهم؟ فلا يمكننا القول بأن الحوروميتانيون قد انحسروا و انسحبوا جميعاً الى مناطق أخرى، حيث لا توجد دلائل على هكذا أمر، و لا يمكننا القول بأن معظمهم قد اختفى. فالجوابان غير معقولان على الاطلاق بحسب علم الآثار. فهذا العلم لم يورد معطيات تشير لهكذا انحسار أو اختفاء في المواقع الحوروميتانية التي تم تنقيبها للآن (أقصد من ناحية الستراتيغرافية = التتابع الطبقي ضمن الموقع الأثري). حتى لو افترضنا بأن المحليين قد تبنوا{الكوردية}، فالسؤال سوف يتمحور حول السبب و الدافع لهكذا سلوك ثقافي تاريخي علماً إننا في علم الآثار نعرف بصعوبة حدوث هكذا أمر إلا اللهم على المدى الطويل جداً، و يستوجب تواجد عوامل محلية حوروميتانية قاهرة و تواجد عوامل أخرى كوردية جاذبة للسكان المحليين الغير كورد تدفعهم الى تبني الكوردية على كافة الأصعدة، خاصة اللغوية منها. و بالتالي فأن هكذا ظاهرة، و إن حدثت، يجب أن تكون موثقة كتابياً من قبل السكان المحليين الحوروميتانيين الكاتبين بالمسمارية و الذين يُفترض {إستكرادهم}، أو توثيق بعض الدلائل من قبل جيرانهم البابليين أو الآشوريين أو العيلاميين أو الحثيين الذين جميعهم كانوا على تواصل/حروب مع أو عبر مناطق الحوروميتانيين. أو على الأقل أن تكون موثقة أثرياً عن طريق تغير أنماط الفخار و العمارة و/أو حصول انقطاع سكني أو تغير سكني ضمن الستراتيغرافيا.
يجب أن نركز على مسألة وصول الساميين و توسع العموريين و الآشوريين و البابليين خلال الألف الثاني. فلو كانت قد حصلت هجرة كوردية ما، لكان هؤلاء الساميون هم أول من وثق ذلك و بكثافة خاصة أن حملاتهم العسكرية لم تكن لتهدأ. لكن ما نجده في كل الوثائق هو الحديث عن أقوام محلية، لا عن قدوم أقوام جديدة.
الخلاصة: لا تواجد لدلائل أثرية أو كتابية توثق لموجة هجرة أو لقدوم قوم يدعى كوردي أو ما شابه، و بالتالي لا يوجد توثيق لهجرة و ترك السكان المحليين لمواقعهم و قراهم أو لثقافتهم و لتبنيهم الكوردية. يجب أن نتذكر بأن بعض الأقوام التي عاصرت أسلاف الكورد على تخوم مناطقهم، مازالت بقاياها متواجدة ليومنا هذا، و يمكننا أيضاً تتبع الحدود الفاصلة بينهم و بين الكورد قديماً و حالياً بشكل يثير الدهشة، و منهم البابليين و خاصة الآشوريين و السريان الذين بحفاظهم على لغتهم و هوتيهم ليومنا هذا، مازالوا متواجدين على أطراف المجتمع الكوردي، و أحياناً متداخلين مع الكورد على الحدود الجنوبية الغربية و الغربية لكوردستان، لكن لهم هويتهم و لم يتم {إستكرادهم}. إضافة إلى العيلاميين في الجنوب الغربي من الهضبة الإيرانية الذين استمروا بتوثيق اختلافهم عن جيرانهم الشماليين و الغربيين لغاية منتصف الألف الأول ق.م (عقب انهيار الإمبراطورية الميدية). كما و نلاحظ من خلال الآثار أنه يتواجد نوعاً من الاستمرارية في الاستيكان و الفنون و الفخاريات بين الألفين الثاني و الأول ق.م بالنسبة لبلاد الرافدين و أناضوليا الشرقية و تداخل فيما بين الفنون خلال الألف الأول ق.م. كما إننا نتفاجئ أن سكان زاگروس الاوسط و طوروس الشرقي لم يتبنوا بالفعل العناصر الثقافية العمورية و الدليل تحدثنا عم حوروميتانيين في تل المناطق قبيل الفترة الميدية. و الساميون أيضاً لم يتبنوا بالفعل الثقافة الحورميتانية أو الحثية رغم حروبهم و صراعاتهم و سيطرة الوحد منهم على الآخر لفترات معينة. كما أن الفتح الإسلامي لم يستطع بالفعل تعريب الكورد، رغم فعالية الكورد ضمن الإسلام. و التورك السلاجقة لم يستطيعوا تتريك الكورد رغم الفاعلية فيما بينهم. ما أردت قوله هو أن تبني ثقافة جديدة و تغير الهوية ليس بالأمر السهل على الاطلاق، و هذا نراه منذ القدم و ليومنا هذا.
إن المحور الثاني الذي سوف أتناوله هنا، يشير بشكل مدهش إلى عدم حدوث هجرة ذات مغزى يمكن أن نسميها كوردية أو خاصة بأسلاف الكورد. ما نجده هي نصوص منذ نهاية الألف الثالثة ق.م تذكر كورد/كورت و بلاد كورد/كوردا/كاردا/گورتين….إلخ، تدفعنا إلى طرح السؤال و البحث بشراهة.
2 لفظ كورد و مناطق كورد في الكتابات المسمارية و المصادر :
في الحقيقة يرد اسم كورد أو كارد، من الجذر [كرد]، في العديد من المصادر و الكتابات الرافدية، و في الفترة الإسلامية فالإشارة إلى الكورد هي واضحة. معظمها تشير سواء إلى سفحي زاگروس الأوسط أو سفحي طوروس الشرقي. سوف أتحذ في هذه المحور تسلسل العودة بالتاريخ إلى الوراء، أي من الفترة العثمانية حتى فترات التاريخ القديم في بلاد الرافدين الشمالية[5] و جاراتها.
من أجل المصادر و المراجع يرجى الاطلاع على الجداول 13 المرفقة مع النص
2.1 الفترة الإسلامية :
في نهاية القرن السادس عشر، نقرأ في مؤَلف سليمنامه بأن السلطان سليم الأول قد طلب من المُؤلف حكيم إدريس أن يبدأ بالسير عبر المملكة منطلقاً من بلاد الأكراد، و يحدد مناطق أورميا و أوشنو و ئاميد و ملاطيا، و ذلك بهدف استمالة أمراء و حكام كوردستان. اسم كوردستان يرد في النص كما هو بكل وضوح. سأعود لاحقاً لتعبير كوردستان. نلاحظ هنا بأن ملاطيا (Melid في النصوص الآشورية) تم ذكرها على أنها من كوردستان و لها أمير/حاكم كوردي. أما فيما يخص الشرفنامه المُؤرخ هو أيضاً على أواخر القرن السادس عشر، فالمخطوط يحدد المقاطعات و المناطق الكوردية و كوردستان و سكانها و أمرائها بشكل مفصل و غني، لا بل حتى انه يتناول كورد في {الشتات اذا صح التعبير}. نلاحظ بأن ديرسم و ملاطيا تم ذكرهما بصراحة على أنهما كورديتين و يذكر أسماء القبائل فيها. كما و يرد شرفخان البدليسي ذكر الملوك الكورت الذين تولوا المُلك في جهات الغور و هرات و سيستان و بلوجستان بعد الدولة الايلخانية بفرمان من منكوآقان [6]. يثير انتباهنا هنا استعمال اسم كورت {بالتاء} و ليس كورد {بالدال} فيما يخص هذه المناطق. في الحقيقة، لفظ أو اسم الكورت بالتاء يرد في نصوص الألف الأول ق.م، كما سيمر معنا لاحقاً في هذه المقالة. أما في الظفرنامه العائد للقرن الخامس عشر، فنقرأ بأن أمير بدليس (بتليس على الطرف الجنوب الغربي من بحيرة وان) هو أهم رجل في بلاد كوردستان[7]. هنا أيضاً يرد ذكر كوردستان بوضوح تام.
في كتابه نزهة القلوب العائد للقرن الرابع عشر الميلادي، يعدد حمدلله المستوفي ستة عشر مقاطعة سكانها كورد، واقعة فيما بين أذربيجيان و لورستان و بعضها في الطرف الغربي لزاگروس كشهرازور و خوفتيان (قويسنجاق على الزاب الأدنى). كما أن المُؤلف نفسه يشير إلى كوردستان الغربية بحديثه عن ولاية آرمان و الجزيرة (أربيل/هولير و العمادية/ئاميدي).
في المصادر الإسلامية التي تتحدث عن معركة ملاذكرد (مانزيكيرت في محافظة موش) و التي وقعت في عام 1071 بين التورك السلاجقة و البيزنطيين، نقرأ بأن 10.000 محارب كوردي تم توظيفهم في جيش ألب أرسلان. ذكر اسم {كوردي} يأتي بشكل صريح. أنتصر السلاجقة التورك [الأتراك] في هذه المعركة على البيزنطيين ، و بذلك فُتحت الأبواب على مصراعيها، منذ نهاية القرن الحادي عشر، أمام البدو التورك السلاجقة للتوسع و الاستقرار في أناضوليا. يذكر المصدر الإسلامي أن ال 10.000 محارب كوردي تم تجنيدهم من أذربيجان من ضمنها اورميا. هذا يعني بأن المنطقة الكوردية في شرقي الأناضول كانت خاضعة للبيزنطيين، بينما كان السلاجقة كانوا يسيطرون على المنطقة الكوردية في شمال غربي الهضبة الإيرانية منطلقين من خراسان التي كانوا قد سيطروا عليها بعد نيشابور. قبل هذا العهد، لم يكن يوجد تورك في أناضوليا. بل كان يوجد كورد منتشرين إلى حدود ملاطيا على الفرات الأعلى، و أقوام أخرى محلية في وسط و غربي أناضوليا.
في أواخر القرن التاسع و بدايات القرن العاشر، نقرأ في كتاب [شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام] لابن وحشية بأنه ترجم من الكوردية إلى العربية مجموعة كتب، لا بل حتى أن المؤلف يذكر بأن للكورد قلم خاص (كتابة خاصة) متأثر بالقلم الكلداني. ينسب ابن وحشية الاكراد (كما مكتوبة صراحة: الاكراد) لأولاد بينوشاد و ماسي السوراتيين. عند حديثه عن الأكراد، يذكر ابن وحشية تأثرهم بالكلدانيين، و يذكر بغداد في نفس السياق. نفهم من ذلك أنه يتحدث عن أكراد العراق و/أو أكراد أعالي الخابور و جنوبي طوروس الشرقي.
في أواخر القرن العاشر، يذكر ابن حوقل قائمة ب 33 قبيلة كوردية معروفة جيداً متنقلة في فارس في جنوبي زاگروس. و ابن حوقل أصوله من مدينة نصيبين في الجزيرة، أي أنه يعلم و يميز بين ما هو كوردي وبين ما هو فارسي/ايراني عندما يتحدث عن قبائل كوردية. الجدير بالذكر أن ابن حوقل قد أعتمد في كتابه على الكثير مما ورد في مؤلف الاصطخري. و الاصطخري معروفٌ عنه أنه من فارس. فإن أخطأ ابن حوقل النصيبي، لن يخطئ ابن بلاد فارس. و كذلك يفعل ابن بلخي الفارسي المنشأ. لا يغيب عنا بأنه للآن توجد مدن و مناطق في خوزستان وفارس تحمل أسماء تشير إلى تواجد الكورد فيها و الذين تحولت هويتهم في القرون الأخيرة و ذلك لعدة أسباب (اللور على وجه الخصوص لكنهم مازالوا على صلة لغوية قوية بالكوردية أكثر منها إيرانية). نذكر على سبيل المثال مدينة شهري كورد عاصمة محافظة شهري محل/بختياري إلى الجنوب الغربي من أصفهان، و نهر يدعى بكوردستان في نفس المحافظة.
2.2 الفترتين الرومانية و الإغريقية :
عالم الطبيعة و الجغرافي الروماني بليني غايوس بلينوس سيكوندوس (23/25 ب.م 79 ب.م) يذكرالكاردوشيين كسكان أديابينه التي هي منطقة مدينة أربائيل/أربيل/هولير. و يضيف المؤلف بلينوس في كتابه بأن هؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا في الماضي يُسمون بالكوردوين (على ما يبدو فأنه يشير إلى التسمية الواردة في الكتابات الإغريقية الأقدم و التي سأذكرها في الفقرة القادمة).
في القرن الثاني ق.م، تحدث المؤرخ الإغريقي بوليبه/بولوبيوس (حوالي 208 ق.م 126 ق.م) عن كورتيين ، في ميديا و في شرقي الأناضول و يحدد حدود ميديا مقارنة مع جاراتها و يذكر الأقوام فيها، فيرد ذكركا[ر]دوس و ماتياني و كورتي. نلاحظ استعمال اللفظ، كورت، الذي استعمله شرفخان البدليسي في حديثه عن مناطق في جنوب شرقي الهضبة الإيرانية، و هذا اللفظ بالتاء سوف يتكرر كثيراً في الحديث عن اورميا و طوروس الشرقي، هذا من جهة. و من جهة ثانية، سوف ذكر لماتياني في مصادر أقدم عمراً. فسترابو، و هو جغرافي و فيلسوف و مؤرخ إغريقي عاش فيما بين نهاية القرن الأول ق.م و بداية القرن الأول ب.م (64/63 ق.م 24 ب.م)، وصف في مؤلفه المنطقة التي يدعوها هو بميديا و يورد ذكر الأقوام فيها، فنقرأ اسمي كرتي/كورتي و كا[ر]دوسي. يحدد سترابو بأن الأمر متعلق بقبائل متجاورة تتشابه في عادتها و تقاليدها. الجدير بالذكر هنا هو أن سترابو أثناء حديثه عن ميديا و الكورتيين و الكاردوسيين، يورد اسم بلاد مجاورة تدعى ماتيان. هذا الاسم كان يُطلق، في النصوص الرومانية، على بحيرة اورميا الحالية. بعض الباحثين يربط بين ميتاني المؤرخة على منتصف الألف الثاني ق.م (الإمبراطورية الحوروميتانية) و بين بقايا حوروميتانيين في منطقة اورميا. كما ذكرتً آنفاً، فعلى ما يبدو ماتيان هي نفسها ماتيان التي يتحدث المؤرخ بوليبه/بوليبوس و كذلك هيرودوت في مؤلفه الرابع حيث يذكر أن سكانها كورتيين [8].
نقرأ لدى المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس من نهاية القرن الأول ق.م و بداية القرن الأول ب.م، ذكره لمجموعات كورتية في جيش أنطيوخس الثالث أثناء حربه ضد الرومان في منطقة مانيسا في بلاد ليديا في شمال شرقي أزمير.
أما في الفترة الإغريقية، فأحد القادة العسكريين اليونانين المرتزقة و يدعى إكزينوفون، و في نفس الوقت فيلسوف و مؤرخ، عاش ما بين 430 و 354 ق.م، ذكر في مؤلفه المسمى أنابازيس (أي الصعود إلى البلاد المرتفعة) إنه أثناء قيادته لقوات مرتزقة مُوظفة لصالح الملك سيروس ضد أخيه أرتاكسيركيس الثاني، و معه 10.000 مرتزق يوناني، قد توجه إلى وسط العراق في حوالي 401 ق.م لمواجهة قوات أرتاكسيركيس الثاني. لقد حصلت المواجهة بين القوتين في مدينة كوناكسا/كوناخا و التي يُقال بأنها تقع على ضفة الفرات شمالي بابل، لكن لم يتم اكتشافها ليومنا هذا. ينتج عن هذه المعركة دحر قوات سيروس و بالتالي يقرر ال 10.000 مرتزق يوناني العودة بأدراجهم إلى مدينة بيرغام اليونانية (حالياً بيرغاما في محافظة إزمير). إن طريق مسير هذه الحملة و عودتها، و المناطق الجغرافية و أقوامها التي مرت، مذكورة بتفاصيلها في الأنابازيس. إن الفصل الرابع المتعلق بالعودة هو ما يهمنا هنا، حيث يروي إكزينوفون عبوره مع ال 10.000 مرتزق لبلاد الكاردوكيين، و ضياعهم فيها و صعوبة اجتياز جبالها و موقف أهالي القرى الكوردية التي مروا بها، و المصادمات التي حصلت معهم. يروي النص بأن الكورد كانوا على حرب من الملك الفارسي سيروس و هذا ما دفعهم للتهجم أحياناً على المرتزقة اليونانيين الذين يودون العبور فقط و بحاجة لمساعدة في اجتياز طوروس الشرقي للعودة إلى بيرغام، إضافة لحاجتهم للطعام و الشراب. يروي النص تفاصيل مهمة عن بعض القرى الكوردية. على سبيل المثال نقرأ بأن بعض البيوت كانت تحتفظ بالنبيذ، و نقرأ كيف تعهد الكورد بتسليم جثث بعض المرتزقة مقابل إرجاع اليونان للدليل الجغرافي الكوردي الذي أسره المرتزقة ليدلهم على الطريق الأفضل للخروج من المنطقة الجبلية الوعرة. الجدير بالذكر أن المرتزقة اليونان كانوا قد استغرقوا 7 أيام من أجل اجتياز بلاد الكاردوك. على ما يبدو، و بما أنهم كانوا عائدون من بابل وسط العراق، فهذا يعني ان المرتزقة قد عبروا طوروس الشرقي من جهة محافظة موش ديرسم في أعالي دجلة و الفرات غربي بحيرة وان و آرارات، و الدليل على ذلك هو أن الحملة تصل بعدها إلى طرابزون، و ذلك مروراً بغربي شرناك ما بين سيرت بطمان شرقي دياربكر. بحسب النص، فأن الأيام السبعة المذكورة، قد تشير ربما إلى اجتياز سفحي جبل طوروس نفسه فقط.
كما ذكرتُ مسبقاً، فإن يثير الانتباه هنا، هو أن لفظ كورتي في المصادر الكلاسيكية يأتي مع التأء و ليس الدال، و هذا يجعلنا نتذكر ليس فقط الشرفنامه للبدليسي، لكن أيضاً بعض النصوص الآشورية من الألف الأول ق.م، كما سنرى لاحقاً، و كذلك يجعلنا نربط بين هذا و التسمية التركية للكورد، حيث أن الأتراك حالياً يسمون الكورد بكورت.
يجب أن نذكر أيضاً ورود اسم لمنطقة تسمى كاردو و كاردونيا عدة مرات في التلمود البابلي المُؤرخ افتراضياً على نهاية الألف الأول ق.م و بداية الألف الأول ب.م[9].
2.3 الألف الأول ق.م و النصف الثاني من الألف الثاني ق.م :
بعض النصوص الآرامية و السيريانية تورد ذكر [10] Qardo/Kardo و Kartewaye وبالطبع هذه النصوص تتناول مناطق في شمالي نصيبين أو ما حولها. بالنسبة للباحث درايفير، فأن اللفظ أو الكلمة Gurd الواردة في النصوص الفارسية و التي تعني شجاع/محارب، تشير إلى أن الفرس قد استعاروها من البابليين. و يضيف درايفير أن ال G الفارسية سببها أن القاف السامية تتحول إلى گ في الفارسية خاصة فيما يتعلق بالأسماء المستعارة من الخارج [11]. كما يرد ذكر Kurt ضمن نص يؤرخ على النصف الثاني من القرن الثامن ق.م من فترة الملك الآشوري سارغون الثاني و الملك تيجلات بيلاصر الثالث. و يذكر النص اسم ملك من مدينة تونا/أتونا في جنوبي كبادوكيا و التي تقع في موقع بورسوك هيوك/زايفه هيوك غربي أضنة(12). و نصوص أخرى من فترة الملك الآشوري تيجلات بيلاصر الأول في القرن الحادي عشر ق.م تذكر Kurti/Kurhi/Qur-tie، و بعضها يشير إلى أقوام تعيش في هيزان في محافظة بتليس جنوبي بحيرة وان و في جبل آرارات[13]. و في المصادر الآشورية العائدة للقرنين الثالث عشر و الثاني عشر ق.م، و من فترة الملك الآشوري تيكولتي نينورتا الأول، نجد ذكر ل Qurtië/Kurti/Kur-ti، و نفس اللفظ يظهر في النصوص الحثية و الآشورية من القرن الرابع عشر ق.م، و نجدها خاصة مذكورة ضمن نصوص المعاهدات الحثية المؤرخة على ذات الفترة[14]
تجدر الإشارة هنا إلى ما يخص الفترة الآشورية، بأن سفر الملوك، الاصحاح 17:6، يذكر بأن الأسرى اليهود قد تم توزيعهم من قبل الآشوريين في مناطق واقعة بين ضفاف الخابور و نهر گزوان و المدن الميدية. لا أعتقد بأن الأمر هنا يتعلق بمدن ميدية في منطقة اورميا أو أذربيجان. بما أن التوراة تذكر الخابور في نفس السياق تماماً، فهذا يعني بأن النص يشير إلى السفوح الغربية من زاگروس في شمالي بلاد الرافدين و إلى السفوح الجنوبية من طوروس الشرقي (شمالي إقليم كوردستان الحالي، مناطق سررت، و شرناك و ماردين و الرها، بطمان و دياربكر..إلخ).
هنا أيضاً في نصوص الآشوريين خلال النصف الأول من الألف الأول ق.م، نجد اللفظ كورتي بالتاء و ليس بالدال، كما هو الأمر لدى الإغريق و الرومان و لدى البديلسي في حديثه عن جنوب غربي الهضبة، و لدى الأتراك الحاليين أيضاً.
2.4 النصف الأول من الألف الثاني ق.م و الألف الثالث ق.م (الفترة البابلية القديمة، و الآكادية و السومرية) [أنظر الشكل 2]:
بعض الأسماء لمناطق متباعدة، لكن ضمن كوردستان الكبرى، ترد في نصوص مسمارية منذ نهاية الألف الثالث ق.م و خاصة بداية الألف الثاني ق.م و تذكرنا بالكورد/الكورت الوارد ذكرهم في نصوص و مصادر الألف الأول ق.م و الألف الأول ب.م. في الحقيقة لدينا منطقتين، الأولى يُطلق عليها اسم كوردا (مملكة/إمارة) و الأخرى اسم كاردا (بلاد).
مملكة كوردا :
الاسم كوردا يظهر في نص يعود للقرن 23 ق.م من فترة نارام سين الآكادي (22732219 ق.م) و يذكر النص مدينة كوردا مع مدينة أزوخينوم في سوبارتو التي أنتصر عليها الملك نارام سين أثناء حملته على الشمال السوبارتي. لكن كوردا كمملكة قد ورد ذكرها أيضاً عدة مرات في أرشيف ماري/تل الحريري على وجه الخصوص و هي نصوص مؤرخة على القرن 18 ق.م، و ورد ذكرها أيضاً في نص من تل ليلان. نصوص ماري تورد أسماء حكام لمملكة لكوردا و هي أسماء سامية مثل سيماح إيلانيه، و بونو عشتار و حمورابي، و نص تل ليلان يورد ذكر اسم الحاكم اشتامار أدد. بعض الباحثين يحددون موقع مملكة كوردا في جبل سنجار، و أخرون في منطقة الحسكة، أو في جنوبي بحيرة وان[15]. لكن على الأغلب، موقع مملكة كوردا الواردة في نصوص ماري يتواجد في منطقة جبل سنجار حيث أن اسم كوردا يرد مع جبل سگگار (جبل سنجار) و ذلك في أحد النصوص المؤرخة على فترة الملك زمري ليم.
بلاد كاردا :
اسم كاردا يظهر في نصوص عصر الأحياء السومري/اور الثالثة في نهاية الألف الثالثة ق.م. حيث تم توثيق هذا الاسم و المكان في عدة نصوص اكتشفت في مدينة گيرسو/نوزي/تل يورگان تبه الواقع في منطقة كركوك. الجدير بالذكر أن أرادنانا (أو إر نانا) و الذي كان سفير الحاكم شولجي إلى السوبارتيين، يسمي نفسه في أحد النصوص المسمارية بأنه حاكم السوبارتيين و بلاد كارداك، إضافة لذكره بأنه حاكم اربيلوم (أربيل/هولير) و مدينتي خمازي و كاراخار[16]. لقد تم ترجيح موقع بلاد كاردا في بلاد گوتيوم في السفوح الشرقية لزاگروس الأوسط. ففي بعض الوثائق المسمارية نجد أن موقع كاردا محدداً جغرافياً بين بلاد خمازي/خماشي و كاراخار/گانخار في زاگروس الأوسط باتجاه الشمال اعتباراً من منطقة خانقين، و إلى الشمال الغربي من شيماشكي. في الحقيقة شيماشكي الورادة في النص تمثل اتحاد لقبائل عيلامية و التي حدد موقعها اللغوي الباحث بيوتر شتاينكيلير في غربي الهضبة الإيرانية تشمل محافظات لورستان، و عيلام، و خوزستان[17]. أما مدينتي خمازي و كاراخار فأن موضعهما الجغرافي غير مؤكدين ليومنا هذا، لكن بما أن النص يحددهما واقعتين إلى الشمال الغربي من شيماشكي، فبالتالي هاتين المدينتين قد تقعان بالقرب من اربيلوم/أربيل باتجاه الجنوب. اللغوي فراين حدد موقع مدينة كاراخار/ گانخار على نهر آلاواند في منطقة خانقين[18]. و بما أن النص يقول بأن بلاد كاردا تقع بين شيماشكي (العيلامية) و مدن إلى الشمال من خانقين، فهذا يشير إلى أن كاردا تقع في السفوح الشرقية لزاگروس. يبدو أن بلاد كاردا كانت قد شملت محافظة كوردستان الحالية إضافة لأجزاءٍ من كرمنشاه. و قد تكون قد اشتملت على مراكز مدنية كسنندج، و سقز و همدان و كذلك مناطق جبلية في غربي وسط زاگروس الأوسط. أما المستشرق كودفراي روليس دريفير فكان قد حدد موقع كاردا في جنوبي بحيرة وان. و قد اتفق مع هذا الرأي المستشرق الروسي مينورسكي[19]. إلا أن تحليل شتاينكيلير و كذلك ميشالوفسكي هو الأقرب للواقع و مدعم بدلائل جغرافية وردت في النصوص نفسها.
يعتبر اللغويون بأن مصدر كلمة كاردا الواردة في النصوص هو ذو أصل آكادي و متحدر من اسم قوردا و التي تعني البطل/الشجاع/محارب/شجاعة/ بطولة. سوف أتناول اللفظ الآكادي لاحقاً. الأمر المحير في موضوع بلاد كاردا هذه، هو العثور في عام 1970 في موقع تبه ݘغا گاوانه الواقع في وسط مدينة إسماعيل آباد جنوب غربي مدينة كرمنشاه، على 56 رقيم مسماري و 28 كسرة تُؤرخ على بداية الألف الثاني ق.م. بحسب المنشورات، فاللغة المستعملة في النصوص هي آكادية/بابلية، و تتضمن على 180 أسم آكادي/عموري، بدون أية إشارة واضحة لميزات لغوية حورية أو حتى عيلامية. أسماء المدن المتضمنة في النصوص (نيكوم، و ميه توران، وهابوراتوم، و آكاديه، و دير)، كلها تذكرنا ببلاد الرافدين مروراً بمنطقة ديالى و حمرين و غربي دجلة. إلا أن هذا الأرشيف (ذو الصفة الآكادية) قد وُجد في منطقة ليست بسامية لا قبل فترة النصوص و لا بعدها، مما يثير الاستغراب لحد كبير للغاية. اعتبر الباحثون بأنه إذ كانت مدينة نيكوم هي خانقين أو بالقرب من خانقين الحالية، فهذا يشير إلى أن منطقة سهل إسماعيل آباد كانت تشكل جزءً من بلاد نماري/نامري التي كانت تحكمها سلالة بابلية انطلاقاً من مملكة إشنونا. و بالتالي، وبحسب رأي بعض الباحثين، فأن النصوص تشير إلى بدو محاربين مهاجرين رافديين جنوبيين ساميين [استقروا ؟] في شمال غربي الهضبة الإيرانية.
بسبب تواجد أسمين متشابهين kurda و karda، أحدهما في الشرق و الآخر في الغرب، بعض الباحثون يعتبر بأنه أحد الاسمين فقط، و ليس كليهما، له علاقة مباشرة بأسلاف الكورد، و ذلك من وجهة نظر لغوية (الاختلاف متعلق بال a و u في الاسمين)[20]. حيث يعتبرون بأن كلمة كاردا (Karda) مرتبطة بالكلمة الآكادية قاردا التي تشير إلى [الساميين] في شمالي غرب الهضبة الإيرانية [؟] و بأن هؤلاء لا يمتون بصلة للكورد. بينما يعتبرون بأن معظم الكورد متحدرون من ال Cyrtii الواردة في النصوص الإغريقية و الرومانية/اللاتينية و المشيرة إلى مناطق شمالي غرب الهضبة الإيرانية. و هذا يعود بنا لإشكالية بعض الباحثين و المستشرقين الذين يبحثون عن [الوطن] القديم الذي خرج منه الكورد الحاليين و انتشروا [؟]. بالاعتماد على ما سبق راح الباحثون المهتمون بالموضوع، يطرحون السؤال التالي : كيف و متى توسع الكورتيين (Cyrtii) و وصلوا إلى السفوح الغربية لزاگروس (إقليم كوردستان الحالي) و سكنوا في منطقة الكاردويين [السامية ؟] أي منطقة Kardu.
إن تواجد هذه الرقم المسمارية ذات لغة و اسماء آكادية/عمورية في هذه المنطقة الزاگروسية الشرقية، و بهذه الكمية في هذه الفترة، هو بالأصل مثير للغرابة،. إذ اخذنا بحقيقة الأمر، فإنه يتوجب أن لا ننسى بأنه عند خضوع منطقة ما لحكم قادم من منطقة أخرى (خاصة في هذه الفترات القديمة)، فالسكان و البدو المحليون لا يرحلون جميعاً هرباً أمام الحملة العسكرية، بل هناك من يبقى و [يتبنى] ثقافة المنتصر أو الأقوى. حتى كلمة التبني التي أستعملها هنا فأنني أتحفظ عليها، لأننا نتبنى شكل جديد من نمط الحياة لكننا نحافظ بشكل غير مدرك أو مدرك على أمور شخصية. هذه المسألة نعرفها جيداً خلال فترة الألف الرابع ق.م عندما أنتشر تجار وركائيون (نسبة لموقع و لثقافة اوروك في جنوبي بلاد الرافدين التي سوف تسمى لاحقاً ببلاد سومر) و بنوا محطات تجارية كبرى سواء جديدة أو استوطنوا ضمن موقع محلي و ذلك في مناطق بعيدة عن موطنهم الأصلي، على الهضبة الإيرانية و في حوض الفرات الأعلى في ملاطيا و ايلازيگ. لكن كل المناطق لم تتبنى بالضرورة ثقافة التجار الوركائيين. و المناطق التي تبنتها، كانت قد تبنتها على طريقتها الخاصة محتفظة بخصائص محلية، والعديد من الموقع تؤكد ذلك، مثل موقع هسك هيوك على مجرى الفرات في محافظة أورفا[21].
في الحقيقة أن نص آراد نانار سفير شولجي، يشير إلى نشاطات عسكرية في تلك المنطقة و لا يعني بالضرورة تواجد سكان ساميين. آراد نانار هو مُعين من قبل شولجي عقب الحملات العسكرية، و بعد تثبيت حامية سامية في المنطقة المعنية. و هذا لا يعني بالضرورة بأن بدوا ساميين قد اجتازوا زاگروس الأوسط ليتنقلوا و يرعوا مواشيهم ثم يستقروا في منطقة غريبة عنهم ضمن جو تعتريه العدائية في هذه الفترة. فالحديث عن الأومان ماندا (قوات محاربة) الوارد ذكرهم في النصوص نفسها كمحاربين، يشير إلى الجو الحربي و العسكري المشحون. علاوة على ذلك، يجب عدم اهمال دور المعتقدات الدينية عقب الحملات العسكرية. فقج كان للمعتقدات دور كبير في التأثير على السكان ليس فقط في بلاد الرافدين، بل في الشرق القديم عامة، و لهذا السبب كان العيلاميون و السومريين و الآكاديون عندما يغزون و يغيرون على مناطق بعضهم البعض، كانوا يأسرون تماثيل آلهة الطرف الخاسر. فالآلهة هي التي تحقق النصر لمملكة ما أو لملك أو لحاكم ما و منها كانت تتأتى شرعية النصر و السيطرة.
شخصياً، أعتبر بأنه توجد حلقة فارغة و غير مفهومة بعد فيما يتعلق بهذه السلسلة و المضاف إليها حديثاً رقم مسمارية من موقع تبه ݘغا گاوانه. يمكننا أيضاً مقارنة حالة تبه ݘغا گاوانه مع فترة ما بعد الفتح الإسلامي و حتى وقتنا الحالي. فأغلب العلماء و المؤرخين و الكتاب الكورد خلال الفترة الإسلامية قد حملوا أسماء عربية إسلامية بحتة، و كتبوا باللغة العربية فقط. و حالياً في مناطق سوريا و ايران و العراق و تركيا، يوجد نسبة كورد كبيرة، لكنهم غير مذكورين في الوثائق الحكومية و الإدارية على أنهم أكراد أو كورد (على بطاقاتنا الشخصية في سوريا يُكتب : عربي سوري؟)، و كذلك الامر في المناطق المجاورة. إضافة لحملنا لأسماء عربية أو عربية إسلامية (و أنا منهم). فهل يعني ذلك عدم وجود كورد في سوريا و تركيا و إيران و العراق؟ الكثير من الكورد يحملون حالياً أسماء عربية (متأثرين بالعرب و الإسلام) و قد نجد كورد يحملون أسماءً فارسية أو تركية و ذلك بسبب العامل الجغرافي القاهر الذي يفصل ما بين الكورد، إضافةً لخضوع الكورد إدارياً و ثقافياً و سياسياً لسيطرة هذه التأثيرات العميقة الثلاثة. يمكننا مقارنة الحالة بالمثال التوركي، و ذلك بعد معركة مانزيكيرت (ملاذكرد في محافظة موش) و التي وقعت في 463 ه 1071 م، و تغلب فيها التورك السلاجقة على البيزنطيين و فُتحت بعدها الطريق أمام قبائل البدو التوركية السلجوقية نحو أناضوليا بشرقها كما بغربها و وسطها. لكن السكان المحليين في وسط و غرب أناضوليا لم يختفوا و لم يهربوا. ما حصل هو انهم [تأتركوا]، ليس إلا. أغلب المصادر أو المراجع تتحدث و تشرح هذه الحال في القرن الحادي عشر. المدهش هو أن الكورد في الأناضول لم [يتأتركوا] على عكس أغلب بقية سكان وسط و غربي أناضوليا. من جهة أخرى، العشرة آلاف جندي في جيش ألب أرسلان و ذكرهم بصورتهم الكوردية تؤكد هذا الكلام، و كذلك ذكر المناطق الكوردية تحت اسم كوردستان و الأمراء الأكراد في الفترة العثمانية.
ما أعنيه هو أن بلاد كاردا في غربي الهضبة الإيرانية، رغم الكتابات المسمارية من تبه ݘغا گاوانه و المكتوبة بلغة آكادية، قد تكون على علاقة سكانية بأسلاف الكورد، خاصة أن اسم البلاد في النصوص هو كاردا و ليس اسم الموقع. و ربما قسم من الأفراد المذكورين في الأرشيف هم محليون تبنوا الثقافة البابلية، لكن ليس لفترة طويلة بكل تأكيد. ربما كانت بلاد كوردا، أو جزء منها قد خضع لبعض الوقت لتأثير بابلي عسكري و/أو تجاري. أقول هذا و أميل له لأنه، كما ذكرتُ آنفاً، لدينا المثال المعروف في علم الآثاربلاد الرافدين فيما يتعلق بثقافة اوروك و انتشارها. ففي النصف الثاني من الألف الرابع ق.م (36003100 ق.م)، تواجدت مستعمرات تجارية وركائية الطابع و الثقافة و ذلك في موقع گودن تبه في گانكاوار في محافظة كرمنشاه و شوگا ميش في خوزستان على سبيل المثال، و غيرها في أناضوليا الشرقية كموقعي هسك هيوك و قوربان هيوك و حج نبي تبه.. إلخ. فالمواقع هذه قد قدمت مواد أثرية ذات طابع رافدي جنوبي قوي، مما دفع بالآثاريين للتردد في اعتبار هذه المواقع كمحلية لكن متأثرة بثقافة أوروك، أم كمستعمرات/محطات تجارية تشير إلى تواجد مجموعات بشرية قادمة من جنوبي بلاد الرافدين كمثال مستعمرات موقع تل حبوبة الكبيرة و جبل عارودة على كوع الفرات حيث نجد صفة المستعمرة التجارة مؤكدة[22]. و لدينا أيضاً مثال المحطات أو المستعمرات التجارية الآشورية المسماة كاروم في وسط أناضوليا، كموقع گول تبه (محافظة قيصري إلى الغرب من ملاطيا) المسمى گانيش في النصوص الآشورية[23]. كل هذا يدعونا إلى ترجيح إقامة حامية او مستعمرة تجارية بابلية لكن ضمن (جزء) من بلاد اسمها كاردا.
أما بالنسبة للتناوب بين ال a و u، بين اسمي كوردا و كاردا، فهذا سوف نجده في النصوص الأكادية (qardutu/qarradu/quradu/qurdu) حيث أن كل هذه الأشكال تعني محارب، مقاتل، بطل، بطولة/ شجاعة[24], و بالتالي قد يكون التناوب بين kurda و karda ما هو إلا شكلين لمعنى واحد فيما بين شرقي زاگروس و غربه.
2.5 المقطع السومري كور، و التعبير الآكادي كورد/قورد :
بحسب ما تظهره الكتابات، فأن اللفظ كور د [RUK] هي قديمة في بلاد الرافدين. فاعتباراً من منتصف الألف الثالث ق.م، هذا اللفظ يشير بحسب النصوص السومرية و في القواميس السومرية، إلى جبال، أقوام جبلية و مناطق جبلية، في شمالي و شمالي شرقي بلاد الرافدين[25]. كما و يعني أيضاً منطقة الشرق (بالنسبة لسومر). الجدير بالذكر أن الغرب يسمى في اللغة السومرية مارتو، martu، و هذه الكلمة تطلق أيضاً على قبائل بدو المارتو أي البدو العموريين الذين توافدوا من جهة الغرب. هذا يعني أن اسم الجهة لدى السومريين تشير في نفس الوقت إلى قوم، في كل مرة، كذلك هو الأمر بالنسبة لسوبارتو. أي يعني أن كلمة كور كانت تشير أيضاً على قوم/أقوام في الشرق و الشمال الشرقي، و اسم بلاد كاردا ما هو إلى دليل على هذا الأمر. إن إضافة حرف الدال لكلمة RUK مبني على شواهد من الفترات اللاحقة، تؤرخ اعتباراً من الثلث الأخير من الالف الثالث ق.م، حيث تظهر في الآكادية كلمة قورتي/قواردو/كواردو التي تقابلها كلمة آكادية أخرى ألا و هي كاردا (Kar-da)، و التي هي تعني أيضاً جبليين، سكان جبال أشداء/محاربين، و ذلك اعتباراً من نهاية الألف الثالث ق.م [kar-da] في زاگروس الأوسط غربي و شمال غربي الهضبة الإيرانية، و اعتباراً من القرن 18 ق.م [Kur-da] في شمالي بلاد الرافدين بحسب نصوص ماري و تل ليلان. كما أن اسم كاردا/كوردا سوف يستمر في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م و في الألف الأول ق.م، و هذا قد يعني بأن هذا الاسم في شمال غربي الهضبة الإيرانية كان قد استعمل أيضاً في المنطقة الغربية منها، أي في شرق و/أو جنوب شرقي أناضوليا[26]. طبعاً و ذلك مع اختلافات في أحد الحروف بحسب العصور (كورتي، قورتي، كورد، كارد).
فيما لو تتبعنا الأسماء و الكلمات التي تشير الى أقوام كورد/كارد و إلى بلادهم، الواردة في النصوص اللاحقة (أي يعني تلك التي قد ذكرتُها في الفقرات السابقة و المتعلقة بنصوص الألفين الثاني و الأول ق.م و الألف الأول ب.م)، يصبح بمقدورنا الربط بين المقطع السومري كور و الآكادي قورت/قورد/قارد/كارد/كورت و بين الأسماء الصريحة المشيرة لأسلاف الكورد و لمناطقهم في الفترات اللاحقة خاصة خلال الألف الأول ق.م. و ذلك بالاعتماد على حقيقة أن أسلاف الكورد هم سكان جبال/جبليين، كانوا و مازال. و كذلك المصادر الإسلامية تذكرهم بنفس الصفات، محاربين و اشداء، و لهذا تم توظيفهم ضمن الجيوش ليس فقط في الفترة الكلاسيكية بل أيضاً الإسلامية، و بشكل موثق. و كذلك الأمر فيما لو قارنا بين المعاني الآكادية و الآشورية. ففي القاموس الآشوري، نجد أن كلمات Qurdu, qurrudu, qardu, qarrada تشير جميعها إلى صفات لها علاقة بالمحاربة و الشجاعة و القتال و البطولة[27]. و هذا ما سوف يدهشنا لو قرأنا الشرفنامه.
2.6 مناقشة عامة حول لفظ كورد :
يُورد شرفخان البدليسي تفسيراً لمعنى لفظ كورد في مؤلفه الشرفنامه، بقوله : {لفظ (كرد) تعبير از صفت شجاعتست جراكه اكثر شجاعان روزكار و بهلوانان نامدار ازين طايفه برخسته اند…..}[28]. إننا لنندهش أن المعنى الذي يقدمه شرفخان البدليسي هو نفسه المعنى المتواجد في السومرية[29]، و في الآكادية و البابلية و الآشورية.
الجدير بالذكر أنه في عام 1896 كان المستشرق الألماني جوزيف ماركوارت قد اقترح بأن يكون اسم الكورد متحدر من الاسم القديم لزاگروس (أزاگارتا أساگارتا)[30]. البعض يعتبر بأن اسم زاگروس متحدر من اسم الساگارتيين، الذين ربما وصلوا إلى سفوح زاغروس مع موجات الهجرة الهندوآرية اعتباراً من أواخر الألف الثاني ق.م. و هم يشكلون قبيلة كبيرة بدوية متنقلة ورد ذكرها في حوليات الملك الآشوري سارغون الثاني (القرن الثامن ق.م) تحت اسم زيكيرتي[31]. كما يرد في كتابات هيرودوت، و بطليموس و ستيفان البيزنطي ذكر الساگارتين/الزاگارتيين. أغلب النصوص تحدد مكان انتشار القبيلة في زاگروس الأوسط و/أو الشمالي. ربما يكون مكان توزع هذه القبيلة في الأصل هو لورستان و بختياري و كرمنشاه، ثم قام الملك الميدي سياخريس/كيخسرو بإسكان جزء منها في مناطق اربيلا/أربيل/هولير و كركوك و مكنهم في مراعيها عُقب مساعدتهم له في حصار و إخضاع نينوى. الملفت للنظر هو أن اسم أزاگارتا أساگارتا يذكرنا باسم بلاد كاردا في شرقي زاگروس الأوسط و التي مرت معنا قبل قليل. لاحقاً، قام المستشرق ماركوارت بالافتراض أن لفظ ماردا كان يشكل المرادف الإيراني للسكان الأصليين، ما قبل لفظ كورد، كوردان[32].
بما أن الأسماء كرد/قارد/كورد/قورد/كورت/قورت كاردا و كوردا، هي مسبقاً متواجدة في بلاد الرافدين الشمالية و في السفوح الشرقي لزاگروس، و موثقة في كتابات مسمارية أقدم من تاريخ وصول الهندوأوربيين/آريين، و تبدأ منذ النصف الثاني من الألف الثالث ق.م، أي يعني قبل أربعة قرون من أول توثيق لتواجد عسكري سامي منظم موجه ضد شمال غربي ايران، هذا من جهة، و من جهة أخرى قبل 1200 عام من بدء ظهور الدلائل الأولى لتواجد الآريين القدماء هنالك، كل ذلك يؤكد أن العكس هو الصحيح. أي أن القبيلة الهندوآرية، الساگارتي/الزاگارتي، كانت قد سُميت من قبل الآشوريين نسبة لزاگروس (هذا أذ كانت بالفعل قبيلة ناطقة بلغة هندوآرية). هذا اللفظ، الساگارتي/الزاگارتي يجعلني أربط بين لفظ زيقورة/زيگورا و زاگروس و زاگارتي : فكلها قد يشير إلى الجبل و قممه المرتفعة، و الزيقورة هي معبد مرتفع فوق عدة مصاطب، و يسمى المعبد البرج. ففي الآكادية، كلمة Ziqquratu تعني بحسب القاموس الآكادي : المعبد البرج، قمة الجبل[33].
إذاً، التوثيق الأقدم يعود لفترة الإمبراطورية الآكادية بشكلين مختلفين: قاردا/قوردو و كاردا/كوردا. و هذا الشكل هو قد يكون ذو أصل سامي رافدي قديم، و يعني قوم شجاع/محارب/شجاعة/بطولة. و التواجد الصريح لكاردا كمنطقة و كقوم يعود لفترة اور الثالثة/عصر الاحياء السومري. لكننا كلنا يعلم بأن هذا لا يعني اطلاقاً فترة ظهور الاسم، بل فقط الفترة التي ذكرتها النصوص. أي أن الاسم قد تواجد ربما و تم استعماله قبل الفترة الاكادي لكن لا دلائل كتابية على ذلك. و بذلك يمكننا اعتبار الاسم متواجد، على أقل تقدير، منذ العهد السومري القديم خلال النصف الأول من الالف الثالث ق.م. ، و ربما المعنى شجاع/محارب/شجاعة/بطولة من جهة، و اسم الجبل من جهة ثانية، هما متداخلين: أحدهما أعطى الآخر صفته.
رغم تواجد كلمات كورد/گاردوgardu/ في النصوص السومرية، تشير كلها و بشكل مدهش إلى محارب/مقاتل/ بطولة/شجاعة، كما هو الحال في الكلمات الآكادية قوردا/قاردو/كوردا/كاردا، إلا أن بعض اللغويين يفضلون عدم إرجاع أصل التسمية الآكادية لتلك السومرية[34]. لكن بنفس الوقت نجد بأن القاموس السومري لجامعة بينسلفانيا يضع كلمة قاردو كبديل آكادي ل گاردو السومرية، و هذا القاموس السومري لجامعة بينسلفانيا هو المُعتمد حالياً من قبل اللغويين المختصين بالسومرية[35].
لهذه الأسباب فإنني اعتبر بان اللفظ كورد هو محلي زاگروسي[36] يعود للألف الثالث ق.م، على أقل تقدير، ثم طوروسي في فترة لاحقة، و ليس هندوأوربي/آري. رغم دخول العنصر الآري إلى زاگروس و طوروس، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد بأن هؤلاء لم يجلبوا معهم لفظ كورد/كورت الذي يعني محارب/شجاع/بطولة/شجاعة ….إلخ. على العكس. فبعد اختلاطهم بالسكان المحليين و محاربتهم ضمن جيوش الحوروميتانيين، هم أيضاً دخلوا ضمن الفلك الجغرافي المعروف باسم : كرت/كرد/كورد/كورت…إلخ، و ذلك بحكم تواجدهم في المنطقة التي أجزاء منها مسماة مسبقاً ب : كور+د/كوردا/كاردا/كاردوك…إلخ، و شعبها يتم وصفه من قبل السومريين و الآكاديين على أنهم شجعان/أشداء محاربين …إلخ. ما قدمه العنصر الهندوأوربي/آري في الواقع هو لغته و مزجها مع اللغة الحوريوميتانية لا بل تفوقها عليها خلال الألف الأول ق.م، إضافة إلى التواجد الجسدي لقبائل آرية مع عقائدهم.
هذا يعني بأن الكتلة اللغوية الكوردية رغم أنها تُصف على أنها من ضمن العائلة الهندوأوربية بفرعها الآري، لكني أعتقد بأنه ليس كل المفردات الكوردية لها علاقة بالعائلة الهندوأوربية. فلو قمنا بمقارنات مع الحورية و ربما مع السومرية، فأنني أعتقد بأنه من الممكن العثور على تداخلات و مرادفات صوتية و دلالية. أميل لهذا الأعتقاد لسببين: أولاً العبيديون الجنوبيون جاؤوا من الشمال و تم استيطان الجنوب الرافدي من قبلهم لأول مرة؛ و ثانياً أنه تم إقامة محطات تجارية للوركائيين (أسلاف السومريين) في السفوح الشرقية لزاگروس و في شرقي الأناضول، أو على الأقل العلاقة و التواصل كانت قوية للغاية فيما بين الوركائيين من جهة و المحليين في زاگروس و بلاد سوبارتو من جهة أخرى، بحسب ما تظهره التنقيبات الأثرية[37]، ثالثاُ بعد أزمة نهاية الألف الرابع ق.م و انهيار المحطات التجارية الوركائية، يبقى السؤال فيما اذا انسحب هؤلاء التجار الوركائيون و عائلاتهم إلى الجنوب الرافدي، كما اقترح، على سبيل المثال، البرفسور جان دانيل فورست، أم أن قسماً من هؤلاء الوركائيين و عائلاتهم قد بقي في مناطق الانتشار و اختلط بالشعب المحلي خلال الألف الثالث (خلال الفترة العيلامية المبكرة و ثقافة نينوى 5 في الشمال الرافدي و ثقافة البرونز القديم 1 في جنوبي طوروس الشرقي). كنت قد أقترحت في رسالة الدكتوراه بأن جزءً من هولاء [المستعمرين] التجار الوركائيون قد بقوا في مناطق انشارهم (وركائيو الشتات)، و بأنه، على سبيل المثال، مدينة ماري الأولى بُنيت من قبل مجموعة من الناس بضمنهم وركائيو الشتات [أنظر محي الدين عثمان 2013].
3 الاومان ماندا Umman-manda :
يتوجب علينا تناول هذا الموضوع لأنه، برأيي الخاص، له علاقة بأسلاف الكورد قبل و بعد دخول العنصر الهندوآري، و ذلك لعدة أسباب.
يبدأ هذا الاسم بالظهور في القرن 21 ق.م في فترة الاحياء السومري و يستمر فيي الورود حتى القرن الخامس ما قبل الميلاد. بحسب ما نفهمه من النصوص، فهو اسم يطلق على مجموعات و نخب متنقلة مقاتلة/محاربة سواء ضمن قوات لإمارة/مملكة/إمبراطورية ما، سواء يأتي ذكرها لوحدها كقوة محاربة مهاجمة تدعى اومان ماندا. لقد قام الباحث التركي سليم أدالي بجمع كافة المعطيات الكتابية المتعلقة بالاومان ماندا ، و ذلك ضمن رسالة دكتوراه تهدف إلى تعريف و تحديد اسم اومان ماندا و إلى ما يشير في نصوص الألف الأول ق.م. و قد نشرت رسالته في الدكتوراه عام 2009[38].
يتواجد 51 مصدر كتابي يؤرخ على ما بين القرن 21 ق.م (فترة الملك إشبي إررا مؤسس سلالة إيسين، 20171985 ق.م) و القرن السابع/السادس ق.م (الفترة الفارسية الإخمينية). في القرن السابع ق.م يرد هذا الاسم (اومان ماندا) في شمالي غربي الهضبة الإيرانية، في بلاد الرافدين و ليديا و في نصوص الملك الآشوري أسرحدون (680669 ق.م)، و آشوربانيبال (668627 ق.م). فتارة تتحدث النصوص عن هجوم للاومان ماندا كما هو الحال في نص من فترة الملك إشبي إررا و هو يشير لهجوم قادم من جهة زاگروس، أو كنص من الفترة الآشورية الوسطى في عهد تيجلات بيلاصر الأول 1100 ق.م يتحدث عن هجوم لاومان ماندا. في هذين النصين نفهم بأن الاومان ماندا هي اقوام أو صفة تطلق على سكان. و تارة أخرى تتحدث النصوص عن عناصر محاربة موظفة من قبل بعض الحكام و الملوك ضمن الجيوش/القوات العسكرية، كنص من ماري من فترة زمرلي ليم في القرن الثامن عشر ق.م، أو كنص حثي من القرن السابع عشر ق.م و يدعى نص زوگراشي يورد بأن الاومان ماندا هم تحت إمرة شخصية تدعى زالودتيش. كما أن ملك آلالآخ، الملك إدريمي (1475 ق.م) يورد ذكر لأومان ماندا ذو أصول من مناطق حوروميتانية و يحدد اسم ملك حوري، باراتارنا، بأنه ملك الاومان ماندا. كما كان الآشوريين في الدولة الحديثة يسمون حكام منطقة سيميريا Cimmeria(الحاكم تيوشبايا و الحاكم توغداميه) بملوك اومان ماندا، و سيميريا (Gimirraya في بعض النصوص) هي بلاد في القوقاز[39]. و في القرن السادس ق.م كان البابليون في الدولة الحديثة (فترة الملك نابونيد 556639 ق.م) هم أيضاً يسمون الملوك الميديين (سياخريس و استياغيس) بملوك الأومان ماندا. و كذلك في النصوص الإخمينية تذكر مجموعات من الأومان ماندا ذو أصول غير معروفة ربما تكون من سفوح زاگروس. و ما يؤكد علاقة الاومان ماندا بزاگروس هو ورود ذكر اومان ماندا و عيلام مترافقين في أحد النصوص. و يرى بعض الباحثين بأن النصوص عندما تصف الاومان ماندا تصفهم بنفس الأسلوب المُستعمل لوصف سوبارتو و عيلام.
يجب التأكيد إذاً على نقطة مهمة: أن اسم اومان ماندا يتم ذكره في وثائق لمنطقة تمتد من الجنوب الشرقي (فارس) و إلى الشمال الغربي (العاصمة الحثية حاتوشا في نصوص من فترة الملك حاتوشيلي الأول (16501620 ق.م)، و هذا منذ القرن الأخير للألف الثالث و لغاية منتصف الألف الأول ق.م؛ و أن الاسم في كل المناطق و في كل النصوص يشير الى ذات المعنى، مجموعات أو نخب من المحاربين/المقاتلين من جهة، و على أنهم من زاگروس أو من المنطقة الحوروميتانية او الميدية. الفارق هو أنه لدى الحثيين يتم ذكر الاومان ماندا إلى جانب مجموعة تعتني بتسيير عربات حربية، و يتم وصفهم على أنهم مجموعات/قبائل/أمراء و محاربين/عسكريين منظمين مهاجرين ذوي أصول مختلفة، منخرطين في الجيوش المحاربة سواء الحورميتانية أو الحثية أو غيرها في المنطقة[40].
3.1 تعريف اسم اومان ماندا :
لفظ اومان يقابله في الفترة الآكادية لفظ ايرين.ميش، و يعني قوات. أما بالنسبة للفظ الثاني، ماندا، فلا يوجد توافق آراء حوله بين الباحثين. في الفترة البابلية ماندوم mandum يعني محارب بحسب قاموس جامعة بينسلفانيا؛ و في السومرية تعني منطقة جبلية في الشرق، شرق سومر، و هذا يُذكرنا بلفظ كور RUK الذي يعني للسومريين الشرق و بنفس الوقت الجبال الشرقية[41] كما مر معنا.
البعض يعتبر لفظ ماندا هو ذو أصل حوروميتاني، و آخرون يعتبرونه الاسم القديم لميتاني أو أن اسم ميتاني قد تحدر من ماندا/ماد/ميديا، و البعض الآخر ينسب اللفظ ماندا إلى أصول هندوأوربية. و بالتالي فالأمر يتعلق ربما بقوم [مهاجر] و ليس فقط بمسألة أفراد متطوعة في خدمة جيوش الدويلات/الدول كما يبدو لنا من الوهلة الأولى عند اطلاعنا على بعض النصوص. و بناء على ذلك، يمكننا القول بأنه قد يشير للميدين و المانايين المذكورين في النصوص الآشورية، أو على الأقل توجد علاقة بين لفظ ماندا و بين الميديين. الجدير بالذكر أن بعض الباحثين يربطون بين الاومان ماندا و الآريون المهاجرون الذين غزوا المناطق الشمالية. و هنا تجدر الإشارة إلى أن اسم العربة التي تجرها الأحصنة المروضة، تدعى ماندوس mandos في الهندوأوربية. لكن أيضاً هناك آراء أخرى تفترض بأن ماندا هي متحدرة من كلمة ماتو في اللغة الآكادية و مادا في اللغة السومرية و التي تعني أرض/بلاد. حيث أن سيروس يذكر أنه انتصر على كامل {ماد} اومان ماندا الگوتية = أي بلاد اومان ماندا الگوتية، و يحددها في الشمال الغربي من الهضبة الإيرانية، أي أنها كانت تشمل أكباتان و ميديا. هنا أيضاً نجد بأن الأمر متعلق بالسفوح الشرقية لزاگروس الأوسط[42].
بسبب عدم وضوح معنى و نسبة الاومان ماندا، يعتبر بعض الباحثين بأن اومان ماندا هو لفظ كان يستعمل بشكل عام للإشارة إلى كل مجموعة أثنية أو محاربة و/أو إلى أقوام أجنبية في منطقة الشرق و منطقة الأوروأسيوية [رأي الباحث التركي أدالي]. و يعتبر باحثون آخرون بأن عدد من القبائل السامية/العمورية سواء في وسط بلاد الرافدين أو في وسط و جنوب شرق أناضوليا هي أيضاً تدخل تحت مظلة الاومان ماندا. بالنسبة لي، فأني أستبعد ذلك، على الرغم من أن أسماء الاومان ماندا هي سامية عمورية في نص ماري/تل الحريري و في أرشيف تبه ݘغا گاوانه الواقع إلى الغرب من مدينة كرمنشاه. فحمل الأفراد لاسم سامي لا يعني بالضرورة أن معظمهم هم ساميو الأصل. كما ذكرتُ سابقاً، إن مسألة تواجد نصوص آكادية/عمورية في تبه ݘغا گاوانه لهو أمر محير من جهة، و من جهة أخرى يوجد احتمال كبير أن يكون الموقع قد شكل محطة تجارية بابلية، أو وقع تحت السيطرة البابلية لفترة من الزمن. لكن سكان الموقع هم محليون، تبنوا الثقافة البابلية. و أسبابي متعددة، منها أن الموقع متواجد في الشمال ضمن زاگروس و ليس في الجنوب أو في الوسط الرافدي. كما أن كافة النصوص سواء البابلية القديمة منها أو الآشورية و البابلية الحديثة تؤكد علاقة الاومان ماندا مع الشمال و زاگروس و طوروس و الحورميتانيين و الميديين، بشكل شبه حصري، إضافة إلى أن الحوروميتانيون الذين في مناطق شمالي ديالى/حمرين و الزابين و الجزيرة كانوا قد تبنوا بعض الملامح الثقافية السامية/العمورية غير الجذرية، كما تظهره مواقع عدة في الشمال الرافدي و الخابور.
3.2 لفظ كورمانجه (أحياناً كورماندجه) و علاقته بكورماندا/كورمادا المشير للميديين :
ربما قد يمكننا الربط بين الفرق بين اللهجتين السورانية و الكورمانجية من جهة، و بين تواجد أسماء جغرافية تحمل اسم كوردستان في السفوح الشرقية لزاگروس، بينما يغيب هذا الاسم (كوردستان) في التسميات الجغرافية (محافظة أو مدينة أو سهل أو نهر أو جبل..إلخ) في اورميا و خاصة في طوروس الشرقي، رغم أن المصادر العثمانية تشمل و تذكر طوروس الشرقي ضمن كوردستان بشكل صريح خلال الفترة العثمانية.
بالاعتماد على المعطيات السابقة، قد أجازف هنا و أقترح بان اسم كورمانجه هو مُؤلف من مقطعين : كور السومرية، و ماندا التي يرد ذكرها في النصوص مرافقة لكلمة اومان. في الحقيقة لفظ كورماندا ليس بجديد، فالاسم يرد في أحد النصوص العائدة لفترة الملك الآشوري سارغون الثانين بصيغة KURMan-da-aa في إشارة للميدين و بلاد الميديين، لكن أغلب النصوص ترده بصيغة KURMa-da-aa ، أي بدون حرف النون، كنص نابونيد في حملته ضد حران حيث يذكر العديد من القوات الميدية. كما أن الملك الميدي سيخاريس يدعى في النصوص: šarKURMa-da-aa أي ملك بلاد مادا/ميديا [43].
قد يكون تبدل حرف د إلى ج، من كورماندا إلى كورمانجه، هو متأخر على الفترة الميدية بقليل. لذلك أقترح بأن اسم كورمانجه ما هو إلا اسم الميديين الشماليين، من اسم ماندا. يجب ألا ننسى بأن البابليين و الآشوريين كانوا يطلقون على ملوك الميديين اسم ملوك الاومان ماندا، كما ورد معنا سابقاً، هذا من جهة، و من جهة ثانية، كان مينورسكي قد اقترح بأن الكورماندجه (هكذا يكتبها هو، مع حرف الدال) هي عبارة عن اتحاد بين الميديين و المانايين في الشمال.
3.3 كوردستان مرادف ل kar-daki أو kur-daki:
كيف و متى أستعمل اسم كوردستان؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب في البداية التذكير بأنه و منذ ما قبل الفترة العثمانية، اسم كوردستان يرد بشكل صريح في المصادر ليشير إلى مناطق سفوح زاگروس الأوسط و سفوح طوروس الشرقي، ممتدة من لورستان في الجنوب الشرقي إلى ملاطيا في الشمال الغربي، و شرقاً إلى سفوح جبل آرارات حيث يقطن كورد على أقدام الجبل. هذا يعني بأن الكورد و كوردستان كانوا في القرن الخامس عشر الميلادي مُشكلين و معروفين و محددين بالصورة التي يبدون عليها الآن تماماً. فالكتابات الإسلامية نفسها توثق ذلك. ليس هذا و حسب. في الحقيقة، لو أخذنا التعبير السومري و الآكادي و الآشوري (كورد.كي أو كاردا.كي = كي تعني مكان/أرض/بلد و كوردا أو كاردا تشير إلى السكان) هو بحد ذاته الأصل القديم لتعبير كوردستان قبيل وصول الآريين على الهضبة.
إن اللاحقة [ستان] ما هي إلا الوجه البديل الهندوآري للفظ [كي] السومرية. في الواقع، رغم أن اللاحقة [ستان] متواجدة من الفارسية القديمة في الألف الأول ق.م، بصيغة (إيستان)، لكني أعتقد أننا نستطيع إرجاع اللاحقة [ستان] إلى القرون الأخيرة من الألف الثاني ق.م رغم عدم وجود دليل كتابي موثق. أقول هذا بسبب تواجد اللفظ [ستان] بنفس المعنى في اللغات الهندوأوربية (ستيهتس)، و في الآفستا (ستانا)، و في الروسية و اللغات السلافية (ستان)، و في السنسكريتية (ستانا)، و في اللغات الأوربية (شتات بالألمانية، و ستاتوس باللاتينية، و ستاند بالإنكليزية)، كل هذا يشير إلى تحدر هذه الكلمة من الأصل الهندأوربي، قديماً قبل الفارسية بكثير. أي أن الكلمة قادمة من الشمال خلال فترة انتشار قبائل متنقلة محاربة هندوأوربية/آرية باتجاه أوربا الغربية و شمالي بلاد الرافدين و شمال شرقي الهضبة الإيرانية. وجود اللاحقة [ستان] في اللغة الروسية قد يؤكد أن مكان خروج الهجرات الهندوأوربية هي السهوب الجنوبية لروسيا و جنوب شرقي أوربا في اوكرانيا. لكن توظيف اللاحقة [ستان] في أسماء الأماكن الجغرافية لم يتم توثيقه إدارياً في النصوص و السجلات إلا في فترات متأخرة. أفترض بأن اللاحقة [ستان] تواجدت في البداية في الشمال، ثم في شمالي غرب الهضبة الإيرانية، ثم انتقلت (كغيرها من المفردات) خلال عهد الميديين إلى الفرس في حوالي منتصف الألف الأول ق.م، ثم مررها الفرس إلى العربية. ما حصل خلال الدولة العثمانية و الدولة الصفوية، هو تأكيد توثيق اسم كوردستان توثيقه إدارياً ضمن الدولة و اعتماده في التسميات و المراسلات و المحفوظات، لكن الاسم كان متداول بالأصل لفظياً منذ الألف الأول ب.م على أقل تقدير و بحسب المناطق. هذه المسألة بحاجة لبحث متأن في النصوص الحوروميتانية و الحثية و الآشورية و الكلاسيكية.
الخلاصة هي أن اسم كور[د] هو رافدي محلي، بينما اللاحقة [ستان] هي هندوأوربية/آرية متأخرة. و لا أستبعد أن يكون الهندوأوربين/آريين، عندما وصلوا إلى منطقة قزوين و ثم إلى شمالي بلاد الرافدين، هم من أطلق تسمية كوردستان على شرقي زاگروس الأوسط، باعتبارهم دخلوا بلاد الكورد المذكورة مسبقاً في الفترات الآكادية و اور الثالثة/الاحياء السومري و البابلية القديمة. و الدليل على ذلك، كما ذكرت سابقاً، هو تواجد محافظة تحمل اسم كوردستان في شرقي زاگروس و نهر في خوزستان، بينما يغيب هذا الاسم في التسميات الجغرافية في طوروس الشرقي. لكن في المقابل أفترض بأن كلمة كورمانجه/كورماندجه قد تشير إلى بلاد الكورد الميديين/المانايين في منطقة اورميا ومنطقة طوروس الشرقي.
4 آليات تشكل أسلاف الكورد:
إذاً: كيف تشكل الكورد عبر التاريخ؟ في الحقيقة، ليس من السهل مناقشة هكذا موضوع معقد و متشابك، عناصره متعددة و متراكمة و يحتاج المرء لأن يكون ملماً بتفاصيل دقيقة لغوية و أثرية و تاريخية، فيما يخص فترات تاريخية طويلة.
على عكس التورك و الساميين ذوي الأصول المحددة من [فرع واحد]، فإن أسلاف الكورد ليسوا بذلك، فقد تم تشكلهم عبر الزمن انطلاقاً من عدة عناصر تاريخية. هذا ما يجعل تناول الموضوع الكوردي صعب للغاية، إضافة إلى قلة الأبحاث المنهجية في هذا الموضوع.
بعد كل ما ورد، و بالاعتماد على معرفتي البسيطة بفترة الكالكوليتيك و البرونز القديم، و اطلاعي السريع على الألف الثاني و الأول ق.م، قد يمكنني أن أوجز فكرة كانت قد تكونت لدي حول الموضوع الكوردي [أنظر الشكل 3].
بالنسبة للقوم نفسه (أو بالأحرى للأقوام) في كوردستان، فالواقع الأثري و التاريخي يقول بتواجد عدة عناصر اجتمعت و امتزجت و انصهرت عبر التاريخ لتنتج في النهاية أسلاف الكورد و الذين تبدأ النصوص بتحديدهم صراحة منذ الالف الأول ق.م على أقل تقدير.
4.1 أول هذه العناصر هو عنصر محلي أصيل. هذا العنصر تمتد جذوره إلى فترة النيوليت على أقل تقدير[أنظر الشكل 4]. لكن يجب أن أنوه إلى أمر: كل [النيوليتيين] في شمالي بلاد الرافدين لم تشملهم عملية تشكل أسلاف الكورد. ما يخصنا هنا هم أولئك النيوليتييون (و أحفادهم الحلفيون و العبيدييون الشماليون فقط و معهم سكان السفوح الشرقية لزاگروس الأوسط، و حاملو ثقافة تبه گاورا و ثقافة الفخار الخشن المخلوط بالقش في طوروس الشرقي، فقط) الذين كانوا مستقرين مسبقاً في مناطق [كوردستان] و استمروا بالبقاء في قراهم أو في مناطقهم، رغم دخول العناصر الأحدث التي سأذكرها في الأسفل. هذه الثقافات المحلية الزاگروسية و الرافدية الشمالية و الطوروسية الشرقية لم تكن منتشرة بشكل متجانس زمنياً، و من الصعب هنا اختصار هذه النقطة التخصصية. على كل حال، أنني أتحدث عن المواقع المنتشرة في منطقة واسعة تمتد من لورستان في الجنوب الشرقي إلى ملاطيا/غازي عنتاب في الشمال الغربي. الجدير بالذكر هنا، أنه خلال عصر النيوليت (الثورة النيولتية)، حصل انتشار و تمدد و هجرة للمزارعين الأوائل النيوليتيون الزاگروسين و الطوروسين. نسمي هذه الظاهرة [بنولتة أوربا و مناطق آسيوية] : تقريباً اعتباراً من الألف الثامن ق.م. هؤلاء المزارعون الأوائل كانوا قد انطلقوا بشكل شبه حصري من المناطق التي نسميها حالياً كوردستان، إضافة للحوض الشمالي للفرات الأوسط (ما بين كركميش و الرقة)، متجهين باتجاه السواحل الأوربية المتوسطية، و باتجاه القوقاز و باتجاه شمالي الهضبة الإيرانية. كما تجدر الإشارة إلى أن استيطان الجنوب الرافدي (الذي سوف يسمى لاحقاً ببلاد سومر) و استيطان خوزستان و فارس قد تم لأول مرة في نهايات الألف السادس ق.م، خلال فترة العبيد، و هذا يعني بأنه لا وجود لاستيطان حلفي في هذه المناطق الجنوبية قبل هذه الفترة. إن الذين استوطنوا هذه المناطق كانوا قد قدموا من سفوح زاگروس الغربية (إلى سومر) و من السفوح الشرقية لزاگروس (إلى خوزستان و فارس). ما أود قوله هنا هو أن سكان الجنوب الرافدين و جنوب غربي الهضبة الإيرانية هم ذو أصول زاگروسية حصرياً. و بالتالي، هذا يعني بأنهم على علاقة وراثية قديمة بزاگروس، بشكل حصري. نفس الشيء يمكننا قوله بالنسبة للنيوليتين الذين انتشروا انطلاقاً من طوروس الشرقي و الفرات الأعلى و الأوسط باتجاه أوربا و القوقاز. الجدير بالذكر هنا أن البرفسور الفرنسي و المختص بالنيوليت، جان بول ديمول، كان قد نشر كتاباً في عام 2014[44]، يحاول فيه نفي ظاهرة الهندوأوربية قادمة من السهوب الجنوبية الشرقية لأوربا، و يركز أكثر على النولتة التي أنتجتها للعالم بلاد الرافدين الشمالي (و فلسطين باعتبارها بؤرة نيولتية موازية في تطورها للنيوليت في زاگروس و طوروس الشرقي). بحسب رأي البرفسور ديمول، فأن ظاهرة النولتة هذه بحد ذاتها كفيلة بتفسر ظاهرة التشابه اللغوي بين الشرق و الغرب (أي ظاهرة الهندو أوربية). إن الفارق بين النظرية الهندوأوربية و نظرية البرفسور ديمول لا يتعلق فقط بالمكان الجغرافي الذي أنتج الظاهرة، بل أيضاً أن جذر الظاهرة قد تكون سامية، بالأحرى. تعليقي على هذه النقطة يتمثل في حقيقة واحدة : و هو أن السومرييون و العيلامييون و الحورييون هم أقرب للساميين منهم لأوربا، بكثير، حغرافياً و زمنياً، و مع ذلك لا يوجد تشابه بين اللغات السامية و السومرية/العيلامية/الحورية.
4.2 في مرحلة لاحقة و بعد النيوليت، و خلال عصر الكالكوليت المتأخر (الألف الرابع ق.م)، تواجدت عناصر خارجية دخيلة عدة دخلت على زاگروس الأوسط و على طوروس الشرقي. اعتباراً من هذه الفترة يبدأ التراكم الثقافي بالتعقد و بالتشابك. فتتوضع طبقة ثقافية دخيلة فوق القديمة و تنصهران، ثم تأتي طبقة ثقافية جديدة لتضيف نفسها فيزيد من حجم التراكم و التعقيد.
هذه الثقافات الدخيلة وصلت بالتوالي على زاگروس الأوسط و على طوروس الشرقي، و هي التالية [أنظر الشكلين 3 و 5 و 6] :
4.2.1 منذ 3800/3700 ق.م، اخذت ثقافة جنوبي بلاد الرافدين، و التي نسميها اوروك، بالانتشار، فوصلت إلى كرمنشاه (موقع گودن تبه) و ربما إلى قاشان أيضاً (موقع سيالك تبه)، هذا من جهة الشرق، بينما تبلغ في جهة الشمال منطقتي ايلازيگ و ملاطيا في طوروس الشرقي. يبدو أن انتشار ثقافة اوروك كان ورائها عدة أسباب من بينها تأسيس محطات/مستعمرات تجارة على يد مجموعات بشرية وركائية، هدفها تغذية متطلبات الجنوب الرافدي من المواد الأولية الغير متوفرة في الجنوب. لقد استمرت هذه المحطات الوركائية ضمن المجتمعات المحلية لغربي الهضبة الإيرانية و أعالي الفرات لغاية 3150/3100 ق.م. نستطيع أن نقول بأن، أحفاد العُبيديين الذين كانوا قد استوطنوا الجنوب الرافدين لأول مرة قادمين من زاگروس الأوسط، أحفادهم الوركائيين يعودا و ينتشروا في الشمال الرافدي و في أجزاء من غربي الهضبة الإيرانية. ثم تنهار فجأة و تختفي كافة المحطات/المستعمرات التجارية الوركائية هذه، و معها الثقافات المحلية أيضاً على الهضبة الإيرانية و في شرقي الأناضول، دون أن نعرف السبب.
لكن، قبل بدء هذا التغير و قبل حصول هذه الأزمة الشاملة في نهاية الألف الرابع ق.م، تشهد بعض المواقع الشمالية ظهور فخار و تقاليد ثقافية أتية مع هجرة لبدو أو شبه بدو قادمين من جنوبي القوقاز (أرمينيا و جورجيا و أقصى شرقي الأناضول). هذه الهجرة نسميها بانتشار ثقافة الكوراأراكس، نسبة للنهرين.
4.2.2 البدو القوقازيين منتجو و حاملو ثقافة كوراأراكس، كانوا قد بدأوا بالتكون و بالانتشار في حوالي 36003500 ق.م، و وصلوا في حوالي 3000/2900 ق.م إلى كرمنشاه في الشرق و ملاطيا في الغرب [أنظر الشكل 6]. كانوا في البداية قد تركزوا خلف الجبال، في شرقي زاگروس و شمالي طوروس الشرقي. وهؤلاء سوف أسميهم بالمجموعة القوقازية الشرقية. وصولهم كان مدمراً للمجتمعات المحلية و للمستعمرات الوركائية، و ذلك بحسب ما يبدوا لنا في مواقع منطقتي أورميا و كرمنشاه. أما في أعالي الفرات و في ملاطيا و ايلازيگ، فيمكننا الحديث عن تغلغل قوقازي مؤثر للغاية ضمن المجتمع المحلي[45]. بعد تغلغلهم في المجتمع المحلي لشمال غربي الهضبة الإيرانية ( حتى وسط كرمنشاه) و لشمال طوروس الشرقي (شمالي بلاد سوبارتو، منطقة الفخار الخشن الممزوج بالقش)، بدأت بعض القبائل القوقازية بالتتوسع أكثر معتمدة على الحياة الرعوية و ارتباطها بالنخبة المدنية المحلية الأصيلة في القرى و المراكز الكبيرة. ففي حوالي 2700/2600 ق.م قد تكون امتدت ليجتاز قسم منها زاگروس الأوسط و يصل إلى سفوحه الغربية في منطقة الزابين و غربي دجلة. نفس الأمر قد حصل ربما من جهة طوروس الشرقي، حيث اجتازت قبائل بدوية قوقازية جبال طوروس الشرقي و عبرت منطقة موش و وان و ديرسم و ايلازيگ و دخلت إلى سهول دياربكر و بطمان و أديامان و أورفا. خلال اجتيازها، كانت هذه القبائل البدوية مسبقاً قد غيرت من صفاتها الثقافية (الفخار و العمارة) لكنها حافظت على المعتقدات و اللغة. جزء من هذه القبائل بدأ يستقر، و يندمج مع السكان المحليين طوال الألف الثالث ق.م على طرفي زاگروس الأوسط و طوروس الشرقي ، إلى أن بدأوا يشكلون، مع المحليين الأصليين، دويلات و إمارات، ممتدة من كرمنشاه و اورميا في الشرق إلى ملاطيا و غازي عنتاب في الغرب، و ذلك في نهاية الالف الثالث ق.م، خلال الإمبراطورية الآكادية و قبيل صعود نجم العموريين و الآشوريين. يجب أن ألمح إلى أن قسماً من البدو القوقاز (سوف أسميهم المجموعة القوقازية الغربية) قد استمر في ترحاله و تنقله من جهة إنطاكية حيث نزل إلى الجنوب على طول ساحل المتوسط و منه من بلغ شمالي فلسطين، حيث يظهر فخار نسميه فخار خربة الكرك (نسبة لموقع في فلسطين) و الذي يشير لتنقل أو لوصول تاثير ما له علاقة بظاهرة القوقازيين و انتشارهم. هذا القسم الغربي من البدو القوقازيين الذي قد وصل فلسطين، لم يعد له علاقة بتشكل أسلاف الكورد. كما ان قسماً من البدو القوقاز قد دخلوا أواسط أناضوليا. هؤلاء أيضاً كانوا قد انفصلوا عمن سوف يشكلون الدويلات الحورية في [كوردستان].
هؤلاء القوقازيون يبدو أنهم ليسوا بهندوأوربيين، فنصوصهم المسمارية المكتشفة في بعض مواقع شمالي بلاد الرافدين، تشير إلى لغة لاصقة لا رديف لها (لا سومرية، و لا سامية و لا عيلامية و لا حثية، و لا هندوأوربية/أرية). ربما يمكننا مقارنة بعض جوانبها اللغوية مع اللغات الجورجية، و يبدو أن هذه العلاقة سببها أصول القوقازيين من منطقة نهري كورا و راكس/آراس. لكن كل اللغة الحورية ليست قوقازية، فعلينا ألا ننسى العنصر المحلي من السكان، و العنصر الوركائي الباقي عقب انهيار هذه المستعمرات التجارية، و كذلك انتشار تأثير اللغة الآكادية و التي سوف تسيطر على لغة المراسلات و التجارة و المدونات. سوف أعود لاحقاً ألى مسألة هندوأوربية أو عدمها بالنسبة للحوريين.
4.2.3 العنصر الذي سوف يأتي و يضيف نفسه للعنصرين الرافدي و الحوري القوقازي، يظهر على مسرح الأحداث في نهاية النصف الأول من الألف الثاني ق.م. و هو العنصر الذي سوف نعرفه باسم ميتاني. هو عبارة عن مجموعات بدوية مرتحلة محاربة قادمة ربما من المنطقة الأوروآسيوية/الاورازية (السهوب الجنوبية لروسيا و لجنوب شرقي أوربا شمالي البحر الأسود)، ضمن موجهة هجرة هندوأوربية وصلت ربما عبر شمالي شرق الهضبة الإيرانية و جنوبي بحر قزوين، أو عبر القوقاز نفسه أو عبر شمال غربي أناضوليا/بلغاريا). و قد يكون الميتانيون هم بالأصل جزء من ذات الهجرة التي جلبت قبائل الحثيين الهندورأوربيين، الذين سوف يستقرون في أواسط أناضوليا. أسباب خروج هذه الهجرات خارج السهوب الروسية الجنوبية و الأوربية الشرقية، هي غير معروفة بعد. ربما قد يتعلق السبب، اعتباراً من الألف الخامس ق.م، بأزمة بيئية و بتغير مناخي في مناطق شمالي بحر قزوين و شمالي البحر الأسود، حيث توجد دلائل في أوكرانيا و شمالي القوقاز على هجرة مواقع بشكل مكثف في هذه الفترة. مهما يكن، فيبدو أن هذه الأزمة الغامضة قد دفعت بالسكان إلى هجر مناطقهم و تبني حياة بدوية أو شبه بدوية أوصلتهم، عبر موجات هجرة متعددة و متلاحقة، خلال الألف الرابع و الثالث و الثاني ق.م، إلى مناطق بعيدة للغاية عن موطنهم الأصلي، فأجزاء منهم وصلت إلى شمالي الهند، و أخرى إلى أوربا الغربية و أخرى إلى مناطقنا الرافدية الشمالية و إلى الهضبتين الإيرانية و الأناضولية.
إذاً، المجموعات التي اتجهت باتجاه المناطق الحورية نسميها ميتانية. هذه المجموعات يبدو أنها أدخلت معها ترويض الأحصنة و العربة ذات العجلات، إلى الهضبة الإيرانية و بلاد الرفدين و منها انتقلت إلى الفراعنة. هؤلاء الميتانييون عملوا ضمن الدويلات الحورية. قد تكون المجموعات الميتانية الدخيلة هذه قد تسلمت القيادات العسكرية ضمن القوات الحورية، نظراً لمهارتها في ترويض الأحصنة و قيادتها للعربات خلال الحروب. و هذا ما ساعدهم ربما، إضافة للتزاوج و مصاهرة النخبة الحورية، في الوصول إلى الحكم و ترك تأثيرهم على المجتمع الحوري، الذي أصبحنا نسميه بالحوروميتاني. حيث أسسوا الدولة الحوروميتانية في حوالي منتصف الألف الثاني ق.م. في هذا الوقت يبدأ العنصر اللغوي الهندوأوربي بالظهور في النصوص الحورية. كان العنصر الهندوأوربي قد ظهر مسبقاً في أواسط أناضوليا، خلال النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، و ذلك مع ظهور الحثيين هناك.
يجدر بي التوقف عند المسألتين الحورية و الميتانية و الهندوأوربية.
فالباحث شارل بورني، و هو عالم آثار مختص بعلم آثار شرقي أناضوليا و جنوبي القوقاز، و هو مؤسس لمدرسة الآثار الطوروسية الشرقية و القوقازية الجنوبية، كان قد نشر مقالاً في عام 1997 يحاول فيه الربط فيما بين الحوريين ذوي الأصول القوقازية و الميتانيين الذين، بحسب رأي شارل بورني، ما هم إلا جزء من الحوريين أنفسهم لأنهم، رغم الاختلاف اللغوي الغير المؤكد، يوجد بين الحوريين و الهندوأوربيين عناصر ثقافية و اجتماعية و دينية مشتركة. و قد أشار بورني في مقالته هذه إلى باحثين آخرين سبقوه كانت لديهم وجهة نظر مشابهة، حيث أورد شارل بورني جملة للباحث جوستينس في عام 1992 : إذ لم تكن اللغة الحورية بتفاصيلها غير هندوأوربية بشكل واضح، فإننا قد نتساءل فيما إذ لم يكن الحورييون هندوأوربيون أكثر من الحثيين أنفسهم[46].
لكن من جهة أخرى، من المفيد أن نذكر المقارنة التي قام بها الباحث العراقي دريد سليم بول حول الفخار المسمى الخابور (الفخار الحوري). لقد أظهر الباحث العراقي أنه بإمكاننا تتبع كافة ميزات الفخار الحوري ضمن التقاليد الفخارية المحلية السابقة (ثقافة نينوى 5) و المعاصرة (الفخار البابلي القديم)[47].
إن هذ الوجه المزدوج للمظهر الحوري قد تم تتويجه بالعنصر الميتاني، الذي برأيي الشخصي قوقازي أكثر منها هندو أوربي. في الحقيقة، ما يميز القوقازيين أثناء انتشارهم هي الزخرفة الحلزونية على الفخار و الحلي المعدنية، حيث تظهر في طوروس الشرقي و في قزوين و كرمنشاه أثناء الانتشار القوقازي (33003150 ق.م). و كما هو معروف، هذه الزخارف الحلزونية ليست من تقاليد بلاد الرافدين و لا الهضبة الإيرانية (و لا الأناضولية قبل وصول القوقازيين إليها). لكن عندما أخذ القوقازيون بالتوسع و التمدد و تصدير منتجاتهم المعدنية، كالحلي، تصل نماذج منها في نهاية الألف الثالث و بداية الألف الثاني ق.م، إلى تل براك من الفترة الآكادية، و إلى مواقع في شمالي لورستان، ثم إلى مدينة اور في سومر خلال عصر الاحياء السومري. حتى أن الزخرفة الحلزونية نجد لها أمثلة في فلسطين على الفخار المسمى بفخار خربة الكرك. الغريب هو أن هذه الزخارف لا تظهر في الفن الحوري (فخار الخابور) رغم اعتقادنا بان الحوريين هم ذوي أصول قوقازية، بينما تظهر هذه الزخارف في نهاية الفترة الحورية، و بشكل غير متوقع، في الفن الميتاني في حوالي 1600 ق.م، فيما نسميه بفخار نوزي. الزخارف الحلزونية الميتانية هذه تذكرنا بفن ثقافة كوراأركس/القوقازية و تذكرنا أيضاً بحلزونيات شمالي البحر الأسود خلال الألفين الخامس و الرابع ق.م. الممتع هو أن هذه الحلزونيات تظهر بكثافة في الفن الحثي أيضاً لتؤكد مرة أخرى على هندوأوربية الميتانيين أو على الأقل على علاقة متينة سواء مع أقوام هندوأوربية في الشمال الشرقي أو مع الحثيين أنفسهم و الذين ظهورهم على مسرح الأحداث معاصر للحوريين و الميتانيين. بعد انهيار الدولة الميتانية و الإمبراطورية الحثية في نهايات الألف الثاني ق.م، تظهر هذه الزخارف الحلزونية في الفن السوري الحثي، حيث نجدها في معبد عين داراه و في معبد إله العاصفة في حلب و في كركميش. السؤال هو: هل كانوا الميتانيون قد وصلوا حديثاً في حوالي 1600 ق.م، أم أنهم جزء من الحوريين و متواجدين مسبقاً ضمن المجتمع الحوري، أو أنهم كانوا يشكلون إحدى القبائل الحورية التي قد تحمل اسم ميتاني، و التي تركت أثارها خلال الألف الأول ق.م في منطقة بحيرة اورميا من خلال قوم أعطى أسمه في أحد الفترات للبحيرة ذاتها، بحسب ما ذكر المؤرخ الإغريقي بوليبه/بولوبيوس ؟
4.2.4 يوجد عنصر ثالث مُؤلف من موجة هجرة ثالثة، هندوآرية هذه المرة، و تؤرخ على نهاية الآلف الثاني و بداية الألف الأول ق.م. (أي عقب انهيار الدولة الحوروميتانية). و هؤلاء الهندوآريين هم أيضاً عبارة عن بدو رحل محاربين. لكن هذه الموجة، على ما يبدو لي، لم تنتشر مباشرة على كامل كوردستان، بل بقيت خلف زاگروس من جهته الشرقية و منطقتي أذربيجان و اورميا و في منطقة بحيرة وان. ثم تغلغلوا في المجتمع الحوروميتاني في تلك المناطق و طبعوه بالصفة اللغوية الآرية، و ذلك قبل قيام الدولة الميدية و اتساعها في كامل شرقي الأناضول و كامل الهضبة الإيرانية و وصول تأثيراتها على منطقة أربيل و الموصل و الخابور و [آرينة] الثقافة في هذه المناطق، و ذلك عقب مساعدة الميديين للبابليين في الانقضاض على عدوهم الآشوري و وضع نهاية للآشوريين.
4.2.5 يجب أن لا ننسى التأثير الحثي على شرقي الآناضول و حروب الحثيين فيها ضد الحوروميتانيين و البابليين، و كذلك تأثيرات الحثيين على منطقة حلب و عفرين و شمالي المشرق. إضافة لذلك، عقب انهيار الدولة الحثية، لجأ الكثيرون من الحثيين اللوفيين إلى مناطق أكثر أمناً، إلى عفرين و حلب و كركميش و إلى الخابور و مناطق في طوروس الشرقي، و تم تأسيس ما نعرفها بالدويلات الحثية السورية [يرجى الرجوع لمقال ميركو نوفاك 2012 و ترجمتي للمقال المنشورة على موقع مدارات كورد]، لقد قامت هذه الدويلات السوروحثية إلى جانب الإمارات الآرامية التي كان بدوها الرحل قد وصلوا للتو أيضاً إلى هذه المنطقة و بدأوا بالاستقرار و بتأسيس إمارات لهم في بداية الألف الأول ق.م. و كل ذلك كان قُبيل توسع الآشوريين خلال الدولة الحديثة. إن فترة الألف الأول ق.م هي غنية بالأحداث و بالتغيرات الثقافية و السياسية و الأثنية و اللغوية خاصة في منطقة شمالي بلاد الرافدين و جنوبي طوروس و شرقي زاگروس.
لغاية النصف الأول من الألف الأول ق.م (قبل لمعان نجم الميديين)، لم يكن بالضرورة كل أسلاف الكورد يدعون بكورتي/كوردي/قوردي….أعتقد بأنه تم تثيب هذا الاسم مع قياد الدولة الميدية و انتشارها و سيطرتها على أجزاء كبيرة سمحت للبدو الكورد بالانتشار من جديد بعد زوال التهديد الآشوري، و التمدد في مناطق جديدة، كجنوب غربي الهضبة الإيرانية (خوزستان)، والتوغل في أذربيجان و أرمينيا و كذلك في مناطق من شرقي وسط أناضوليا. و هي الفترة التي سوف تحدد صورة الكورد و مناطقهم الأساسية، في ظل الدولة الميدية.
بعد ذلك و عقب انهيار الدولة الميدية و خلال الإمبراطورية الفارسية، تشح المصادر حول الكورد، رغم ورود ذكرهم في العديد من المصادر الكلاسيكية كما مر معنا.
إن الفترة الإسلامية هي التي أعطت دفعاً لعودة ظهور الكورد على مسرح الأحداث ثقافياً و سياسياً و أدبياً و دينياً، لا بل و حتى عسكرياً، بينما يختفي ذكر الكورد خلال الدولتين الساسانية و البيزنطية السابقتين للفتح الإسلامي.
إن نمط الحياة البدوية هي التي ميزت أسلاف الكورد خلال مسيرة تشكلهم المركبة و المعقدة. و هذا النمط هو الذي دفعهم إلى الانتشار في أماكن جديدة، و إنتاج فروع في أماكن جديدة.
إن اختلاف اللهجات الكوردية، إن دل على شيءٍ، فهو يدل على هذا التداخل و الانصهار بين السكان المحليين لزاگروس و الأقوام المهاجرة، هذا من جهة. و من جهة أخرى، يدل على النمط البدوي الفعال و المُعقد و المُتجذر في طبيعة حياة أسلاف الكورد بشتى تنوعاتهم الثقافية و الأثنية المحلية و الدخيلة : فقسم من المحليون الأصليون، منذ فترة حلف، كانوا قد فضلوا و تبنوا النمط الرعوي. إضافة إلى تجذره خلال الألف الخامس و خاصة خلال الألف الرابع ق.م (فترة اوروك) عندما بدأت تتبلور أولى مراحل التمدن و ظهور بوادر أولى [المدن] التي كانت بحاجة للحديقة الخلفية الرعوية التي تمدها بالمواد الأساسية. كما أن الطبيعة الجغرافية و البيئية لمساحاتٍ واسعةٍ من كوردستان تستوجب التنقل الرعوي في تلك الفترات بسبب ضيق مساحات السهول، خاصة في السفوح الشرقية لزاگروس، و وقوع قسم من كوردستان ضمن مناطق قليلة الأمطار كلما ابتعدنا عن سفوح الجبال.
ثم أتت الطبقة القوقازية الرعوية لتعززهذه الحياة البدوية لكن ضمن مفهوم القبيلة و الزعيم. حيث أن القبر [الملكي] المكتشف في موقع أرسلان تبه في ملاطيا و المؤرخ على 3000 ق.م، و ذو ميزات قوقازية/كوراأراكسية و الغني بالأعطيات، خاصة المعدنية منها، يشير لقبر زعيم، و بالتالي إلى تواجد هكذا مفهوم تسلسل طبقي اجتماعي (نخبة قبائلية أو زعماء قبائل). كما تشير إلى ذلك ما نسميه بقبور الكورگان (Kurgan / Tumuls) الدائرية و المقببة (على شكل تل) المنتشرة في أذربيجان و اورميا و شرقي الأناضول منذ الألف الرابع ق.م و قد استمرت حتى منتصف الألف الأول ق.م. نذكر على سبيل المثال الكورگان المكتشف في بوزكورت القريبة من جبل آگري في شرقي الأناضول[48]، أو الكورگان المكتشف حديثاً في موقع خودا آفارين على ضفة نهر الأراكس في أذربيجان الإيرانية إلى الشمال الشرقي من بحيرة اورميا. كلها تشير إلى قبائل متنقلة لكن تحت ظل زعامة عشائرية لها ارتباطاتها مع النخبة المحلية [المغلوبة على أمرها] منذ نهاية الألف الرابع ق.م عقب انهيار اوروك و تجزء الثقافات المحلية على الهضبتين الإيرانية و الأناضولية.
في النهاية، الطبقتين اللتين أتتا لتضيف نفسهما، الميتانية في منتصف الألف الثاني و تلك الآرية التي وصلت بعدها، و تغلغلهما ضمن النخبة المحلية خلال الألفين الثاني و الأول ق.م. هاتين الطبقتين (إن لم نشأ استبعاد الميتانية التي قد تكون حورية بالأصل) هما متحدرتين من ظاهرة انتشار لبدو قادمين من المنطقة الاوروآسيوية/اورازية (السهوب الجنوبية لروسيا و لشرقي أوربا) نسميها : ظاهرة انتشار الهندوأوربيين. ما وصل إلى مناطقنا هو فقط جزء من ظاهرة كبرى مازالت غامضة المعالم. وصلت تأثيراتها الى الهند و إلى أوربا الغربية، منتجة تشابهات لغوية و عقائدية..إلخ، حيرت العلماء ليومنا هذا. فمن المدهش على سبيل المثال، أن يسمي الهنود القلب بكلمة [دل dîl दिल]، و الدم [خون xwîn खून] كما الكورد تماماً، هذا من جهة. و من جهة آخرى، يقول الكورد kî بنفس اللفظ و المعنى المتواجدين في qui الفرنسية. و من المدهش أن يتكلم البلوش/البلوݘ بلهجة قريبة للكوردية بينما تفصلهم عن الكورد الخاصية الفارسية/الإيرانية. كما أن عيد الربيع لدى الكورد يسمى بنوروز، بينما لدى الهند يسمى هولي، لكن أيضاً نجده في الثقافات الحثية و اليونانية و الرومانية و الجرمانية، تحت مسميات مختلفة، لكن الجذور هي واحدة، غير متواجدة لدى الساميين أو التورك.
إن أحدى أسباب تجذر النط الرعوي هي سياسية و عسكرية أيضاً، خاصة خلال الفترة الآشورية الحديثة حيث وصلت حملات الآشوريين إلى ما وراء زاگروس و طوروس الشرقي. إضافة الى تنقل واسع لبدو من لورستان باتجاه الشمال، إلى غربي جبال البورز في قزوين و جنوبي و شمالي طوروس الشرقي، و ذلك خلال أواخر الألف الأول ق.م. من هذه القبائل نذكر قبيلة باگراواند/باگران التي بلغت منطقة دياربكر، تيغراناوند/تيغران، هدباني، شدادان، ماماگان، چيلو/چيلوا/چالاواند في منطقة جبل كوه في لورستان، و ديلماس/دايلاميتس[49].
إن خريطة توزع الناطقين بالكتلة اللغوية الكوردية [أنظر الشكل 1] تؤكد على تجذر الرعي و التنقل في نمط حياة و اقتصادي قسم كبير من الكورد خلال الالف الأول ق.م. و الألف الأول ب.م. كما أننا لو راجعنا المصادر العربية ما بين القرن السابع و العاشر الميلادي (ابن حوقل، الاصطخري، ياقوت الحموي، اليعقوبي، أبو آدلف، البلاذري، ابن الفقيه، ابن الأثير و التنوخي)، نجدها تهتم بنمط حياة الكورد الرعوية و تصفه و تنسبه لقسم كبير من الكورد سواء في زاگروس أو في طوروس الشرقي[50].
بالتأكيد توجد تأثيرات فارسية، و إغريقية و ساسانية متأخرة، لكني أعتقد بأنها طفيفة على كوردستان على المستوى الاجتماعي و اللغوي. ضعف هذه التاثيرات المتأخرة يعود سببه إلى طبيعة المرحلة السياسية في نهاية الألف الأول ق.م، و إلى طبيعة جغرافية كوردستان التي تارة شكلت الحدود الفاصلة و تارة أخرى شكلت منطقة توسع نفوذ أو منطقة عبور القوات المتحاربة. هذه الشيء يبدو واضحاً من خلال المصادر الكلاسيكية.
من الملامح التي تؤكد بقاء المجتمع الكوردي الإسلامي بعيداً عن التقلبات، هو الفوارق التي تظهر على سبيل المثال في المعتقدات. فالنوروز في إيران يحتوي على تقاليد زرداشتية و مسيحية و إسلامية متراكبة الواحدة فوق الأخرى، كتواجد القرآن إلى جانب كتاب الشاهنامه، إلى جانب الأسماك و بيض الدجاج. كل هذا له مكانة في نوروز إيران ليومنا هذا في مناطق عدة. بينما تغيب هذه الأمور في التقاليد الكوردية عامة أينما ذهبنا و نجد فقط لب الأسطورة [ كاوا و الشعلة و الأفاعي]. و قد يشير هذا على أصل كوردي أكثر منه فارسي للنوروز، ليدل على محافظة المجتمع الكوردي على التقليد دون الكثير من [الشوائب]. ربما بالأصل الأكراد في الألف الأول ق.م كانوا قد مرروا للفرس الكثير من هذه العقائد. فالنوروز كان يُحتفل به في الفترة الحثية و الحورية و الميتانية و الميدية تحت مسميات و تجسيدات مختلفة، أي قبل الفرس ب 13001500 عام تقريباً. فلدى الحثيين في القرنين 1817 ق.م، نجد عيد الربيع [عيد Purulli] مرتبط باسطورة إيلويانكا التي تتحدث عن قتل إله العاصفة لأفعى أو تنين عن طريق سلاحه ذو الشعلة، و هذا يذكرنا بكاوا الحداد و بالملك الضحاك و أفاعي كتفيه. نفس الأسطورة نجدها في الهند عبر ملحمة رب الآلهة اندارا و قتله عبر صولجانه (كاوا الحداد) للأفعى فريترا (الملك الضحاك). نفس الأسطورة لكن بتسميات مختلفة نجدها لدى الإغريق و الرومان و في الدول السلافية في شمال أوربا. كما أننا نجد على الأختام الأسطوانية في بلاد الرافدينمن الفترة البابلية القديمة كائن ذو حيتين تخرجان من كتفيه. لهذه الأسباب، أعتقد بأنه يجب أعادة ترتيب الصورة التاريخية قبل نسب الكورد للفرس المتأخرون في التاريخ. فتقاليد نوروز جاءت من الشمال منذ الألف الثاني ق.م، كما الصفة الآرية التي أتت من الشمال قُبيل ظهور الفرس.
إذ أردنا الحديث عن تأثير عميق، فسوف تكون الفترة الإسلامية بحد ذاتها. حيث مع الفتح الإسلامي، بدأت هجرة بدوية، قادمة هذه المرة من الجنوب، من الجزيرة العربية. هذه الهجرات البدوية الرعوية استقرت على حواف كوردستان و أحياناً تغلغلت إلى الداخل. بعد الهجرة البدوية العربية الإسلامية، وصل البدو التورك السلاجقة قادمين من أواسط أسيا على مراحل.
السؤال هو: هل حصل اختلاط اجتماعي كبير بين البدو العرب و البدو التورك من جهة و بين الكورد؟ هل تم استعراب أو تتريك قبائل كوردية أو إستكراد قبائل عربية أو تركية؟ لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال. يجب ربما العودة إلى مختصين بهذه الفترة، كالباحث بوريس جيمس و آخرون. لكني أعتقد بأنه لو كان الاختلاط كبيراً و مؤثراً على الصفة الكوردية، لكانت اللغة هي أولى العناصر المختفية بسبب التأثير و الاختلاط. لكننا نلاحظ بأن هذا لم يحدث، كما نعلم جميعاً في كافة مناطق كوردستان. يجب أن لا ننسى بأن كورد إيزييديين أو زرداشتيين مازالوا متواجدين في مناطق عديدة في الغرب (في عفرين) أو في الشرق (إقليم كوردستان و سفوح سنجار)، و هذا إن دل على شيء، يدل على أن التأثيرات التي دخلت على الكورد تبقى بسيطة للغاية. فالتأثير يتمثل في اعتناقهم للإسلام، ليس إلا. أما لغويا، فالكثير من الكورد لم يكن يتحدث سوى الكوردية لفترة معاصرة لنا، لا بل ليومنا هذا، رغم سياسات التتريك و التعريب الممنهجة منذ فترات طويلة، و ليس فقط بُعيد الحرب العالمية الأولى. أما ما سبق الحرب العالمية، فنصوص الفترة الإسلامية و العثمانية توضح، كما مر معنا، بأن المجتمع الكوردي بقي في معظم حالاته بعيداً عما يمكن تسميته اختراق لصفته الكوردية، إلا اللهم على أطراف كوردستان و في المدن الكبرى و لدى كورد الشتات. حتى أن كورد الشتات [خورسان على سبيل المثال] استمروا في المحافظة على صفاتهم الكوردية اللغوية و الاجتماعية ليومنا. إضافة إلى أن الشرفنانه في تركيزها على الكورد تؤكد ما ورد هنا. أعتقد بان الصفة و الحالة الكورديتين لم تتغيران كثيراً منذ الفترة الإغريقية و الرومانية، لا بل أن العكس هو صحيح: لقد انتشر الكورد في مناطق جديدة خلال الفترة الإسلامية و العثمانية، لأسباب عديدة، تماماً كما انتشر بدو عرب رحل إلى مناطق الموصل و الخابور و كوع الفرات لا بل أنهم تجاوزوا هذه المناطق أحياناً و وصلوا إلى دياربكر، هذه الحالة لم تحدث للمنطقة الواقعة في شمالي طوروس الشرقي و تلك في السفوح الشرقية لزاگروس الأوسط، و ذلك لأسباب جغرافية و اجتماعية و رعوية.
الخاتمة :
أنهي هذه المقدمة بالتركيز على ثلاثة نقاط.
النقطة الأولى : هي أنه تم تشكيل الكورد من عدة عناصر مختلفة، بعضها محلي و بعضها الآخر دخيل [أنظر الشكل 2 و 3 و 6]، لكن مجتمعة، متراكمة و منصهرة خلال أكثر من ألفي آلاف عام على أقل تقدير. هذا يعني بأن كل الكورد ليسوا بمحليين نيولتيين؛ كل الكورد ليسوا بحوريين؛ كل الكورد ليسوا ذو أصول أوروآسيوية؛ كل الكورد ليسوا بميتانيين؛ كل الكورد ليسوا بآريين. الكورد حالياً هم مركبون من كل ما سبق و فيهم جزءٌ من كلما سبق. إن اختلاط و امتزاج هذه العناصر المختلفة مع بعضها و تفاعلها عبر الزمن، هي التي قدمت الكورد بالصورة التي هم عليها الآن. من وجهة نظري، فأن الصورة النهائية لتشكل الكورد تؤرخ على الفترة الإغريقية على أقل تقدير. ربما يجب ألا نهمل عناصر أخرى حديثة، لكنها كما ذكرت، ضعيفة و متأخرة و تتواجد فقط على أطراف كوردستان. التفريق بين هذه العناصر التاريخية، حالياً، ليس سهل المنال على الاطلاق (كما لو أردنا التفريق حالياً بين ما هو نبطي و ما هو عربي، بين ما هو كنعاني و ما هو عربي، أو بين ما هو حثي أو حثي لوفي وبين توركي، أو بين عيلامي و بين فارسي/آري، أو بين قوقازي كورا اراكسي و بين أرمني). ما لدينا الآن هو قوم كوردي ذو أصول محلية و خارجية دخيلة قديمة ممتزجة بأسلوب متناغم، تدل عليها اللهجات التي تشكل اللوحة الفسيفسائية للكتلة اللغوية الكوردية.
النقطة الثانية : و هي أنني أعتقد بأنه يمكننا الحديث عن الكتلة اللغوية الكوردية التي منها تفرعت لغات و لهجات أخرى. إذ كان يوجد فيما ورد ضمن هذه المقالة شئياً من الصحة، فهذا يدفعني إلى التساؤل حالياً فيما إذ كان تعبير [الشجرة الإيرانية] هو الأصح أم أنه يتوجب إعادة النظر و اقتراح تعبير [الكتلة اللغوية الكوردية] التي أنتجت، بشكل أو بآخر، الفارسية الإيرانية؟ إلا اللهم إذا كان تعبير [الشجرة الإيرانية] يشير إلى الآرية التي قد يكون اسم إيران قد تحدر منها بالأصل. لكن في هذه الحال يختلط الآمر على القارء أحياناً في التفريق بين إيران الحالية و [آرينة] الهضبة على يد الآريين خلال الألف الأول ق.م. لكني عندما أجد أن البلوشية و الكوردية تتشابهان في المفردات و القواعد، بينما تختلفان عن الفارسية التي لها قواعدها الخاصة، فأنني أميل لاقتراح تعبير [الكتلة اللغوية الكوردية] نيابة عن نسب الكثير من اللهجات و اللغات إلى الإيرانية. ليس فقط لأن تعبير الشجرة الإيرانية يختلط على القارئ، بل لأن الكوردية في الشمال تبدو لي أقدم زمناً لا بل حتى أنها أصل الفارسية الإيرانية نفسها، و لأنه ربما قد تم [آرينة] الفرس على يد أسلاف الكورد في نهايات الألف الثاني و خاصة خلال الألف الأول ق.م. لا ننسى بأن البلوشية/البلوݘية تنسب الى منطقة غربي بحر قزوين و ليس إلى جنوب غرب الهضبة.
النقطة الثالثة : هي أنني متأكد بأن الكادر الشبابي المختص و المتوفر حالياً في الأجزاء الأربعة من كوردستان، قادر، بمساعدة و بتشجيع كوردي سياسي ملتزم، على حمل عبئ مسؤولية إعادة ترتيب بعض هذه الأوراق التاريخية فيما يخص الكورد بشكل منهجي، ليس من باب القومجية، بل لأنه توجد على ما يبدو حقيقة تاريخية و أثرية و لغوية، تهم الكورد أنفسهم بالدرجة الأولى. فعلى سبيل المثال، يجب إعادة دراسة مصادر العرب و الشرفنامه للبدليسي و محاولة فهم العلاقة بين ما يرد فيها من أمور في غاية الأهمية من جهة، و الألف الأول الميلادي قبيل الفتح الإسلامي و خلال الفترة الساسانية من جهة أخرى. ثم مقارنة نتيجة تلك الدراسة بمصادر الألف الأول ق.م، الفارسية و الآشورية و الكلاسيكية، و ذلك لفهم التداخلات اللغوية و الأثرية و الأثنية ضمن المجتمع الكوردي القديم المركب. فكما افترضت مسبقاً، أن لفظ كوردستان ربما يكون الهندوأوربيين قد أطلقوه على وسط زاكروس، بينما لفظ كورمانجه/كورماندا/كورمادا قد يكون أطلقه البابليون و الآشوريين على منطقة بلاد ميديا في شمالي غربي الهضبة الإيرانية و في طوروس الشرقي.[1]
[1] أنظر مقالة اركاديوس سولتيساك 2004 حيث يقدم خلاصة عن إشكالية الموضوع السومري.
[2] أنظر فرست مرعي 2006.
[3] للمزيد عن هذه الآراء و المراجع، أنظر هينربيشلير 2012.
[4] ولد في طهران عام 1953، ثم انتقل الى يريفان عام 1968.
[5] بلاد الرافدين الشمالية تُحدد (بحسب رأي علماء الآثار) من ديالى/حمرين إلى السفوح الجنوبية لطوروس الشرقي مروراً غرباً بحوض الفرات الأوسط، وشرقاً الحوض الأوسط و الأعلى لنهر دجلة.
[6] أنظر شرفنامه ص 29.
[7] هنا قد أستعمل مؤلف الظفرنامه التعبير العربي (بلادُ + الأكراد) و التعبير الآخر (كوردستان) الذي يعني بلاد الكورد (حول موضوع اسم كوردستان أنظر بوريس جيمس 2007).
[8] أنظر تاريخ هيرودوت 1802 ص 324325.
[9] أنظر مهرداد إزادي 1992 ص 31.
[10] أنظر نولديكيه 1898؛ بوتس 2014.
[11] أنظر درايفير 1923.
[12] أنظر جون بواردمان 1991 ص 91.
[13] درايفير 1932؛ أنظر هينربيشلير 2011 و 2014.
[14] أنظر هينربيشلير 2011.
[15] ايدزارد و أل. 1974، ص 91؛ غاليب 2015 ص 15؛ فراين 1993 ص 125؛ 1997 ص 323324؛ 1990 ص 623624.
[16] لقراءة النص و الترجمة أنظر فراين 1997 ص 324، و أنظر أيضاَ غيلب 1944 ص 85.
[17] أنظر شتاينكيلير 1988؛ 2007.
[18] أنظر فراين 1997 ص 170.
[19] أنظر غودفراي درايفير 1923؛ هينربيشلير 2014 ص 171.
[20] أنظر خلاصة هينربيشلير 2014.
[21] أنظر باربارا هيلوينغ 2002. لكن بشكل عام أنظر العدد 25/1 من مجلة Paélorient؛ و كذلك أنظر باسكال بوتيرلان 2003 الذي تناول موضوع التثاقف خلال فترة اورك في جميع المناطق.
[22] أنظر فايز و يونغ 1975؛ العدد 25/1 من مجلة Paélorient؛ و كذلك أنظر بوتيرلان 2003؛ و روتمان و غوبنيك 2011).
[23] أنظر كوول 2012.
[24] أنظر القاموس الآكادي المتوفر على الانترنيت، من أجل هذه الكلمات و التبادل بين ال a و ال u و معاني الكلمات.
[25] من أجل تفاصيل عن لفظ كور، أنظر هينربشلير 2011 و 2012؛ و أنظر قاموس جامعة بينسلفانيا السومري المتوفر على الأنترنيت.
[26] أنظر هينربيشلير 2014 ص 189.
[27] أنظر القاموس الآشوري 1982 مجلد حرف القاف ص 317318.
[28] أنظر نسخة الشرفنامه للناشر فرج الله ذكي، ترجمة ملا جميل روذبياني، ص 28.
[29] أنظر القاموس السومري لجامعة بينسلفانيا لأجل هذه الكلمة gardu.
[30] انظر ماركوارت 1896 ص 231.
[31] أنظر إزادي 1992؛ بيليربيك 2012 ص 98.
[32] أنظر ماركوارت 1930 ص 53، بوتس 2014 ص 111.
[33] أنظر القاموس الآكادي للجمعية الفرنسية للآشوريات.
[34] انظر هينربيشلير 2014.
[35] أنظر القاموس هنا لكلمة گاردو و مرادفها بالآكادية psd.museum.upenn.edu/epsd1/nepsd-frame.html.
[36] يوجد تعبير {ازكرت و ازكرتي، زكرتي} و هو مستعمل في بلاد الشام و سكان دمشق يقولونها كثيراً. على ما يبدو هذه الكلمة متحدرة أو مأخوذة من لفظ كورد أو تشير إلى الكورد منذ الفترة الإسلامية. في الحقيقة، أعتقد بأن لفظ كلمة زكرتي هي ليست بالكاف. بحسب ما أعرفه و تعرفونه، فهي تُلفظ بحرف ال گ (زگرتي)، و هو حرف غير موجود بالعربية (و لا يمكن مقابلته بحرف الغين العربي و لا بالقاف البدوية). ما يؤكد لي ذلك، هو الشرح الذي قدمه أمين الريحاني في كتابه لكلمة ازكرتي في كتابه [ملوك العرب، رحلة إلى البلاد العربية، الجزء الأول، الطبعة الثامنة]. حيث يقول في ملاحظة ضمن الصفحة 568: [ازكرت لفظة فارسية معناها من لا أهل له و لا عيال، و تطلق في نجد على من يقضي أيامه في قصر السلطان أو الأمير أو خادماً حول القصر ينتظر قسمة ربه، و الزكرت كثير الأسفار عادة و كثيراً الأخبار، مرن العقل و الخلق، يحسن الخدمة و يحسن كذلك التهكم على الإخوان]. أن ذكره للأصل الفارسي (بحسب اعتقاده) هو ما يؤكد العلاقة بين زگرتي و نسبته لأمر ما متعلق بالكورد. أما وظيفة و دلالة حرف الزال هنا، فقد يشير إلى ضمير المتكلم {أنا = آز في الكوردية}، أقول هذا من باب الفرضية و السبب هو التقارب، و لأنه تم إرجاع الكلمة إلى الفارسية كما ورد في كتاب أمين الريحاني.
[37] أنظر باسكال بوتيرلان 2003، و أنظر مجلة Paléorient عدد 25/1 لعام 1999.
[38] من أجل المزيد من التفاصيل الشيقة عن الومان ماندا، أنظر أدالي 2009.
[39] أنظر أدالي 2009.
[40] للمزيد انظر هينربيشلير 2012 ص 7173؛ 2014 ص 192196؛ أنظر أدالي 2009.
[41] لأجل معاني [كي]، أنظر القاموس السومري http://psd.museum.upenn.edu/epsd1/nepsd-frame.html.
[42] قد يُذكرنا الاسم مانا هذا بمدينة ماندالي الواقعة في ناحية بلادروز في شرقي محافظة ديالى على الحدود العراقية/الإيرانية، و التي أغلب سكانها هم من الكورد.
[43] أنظر أدالي 2009 ص 28، 75، 184، 186.
[44] أنظر جان بول ديمول 2014.
[45] أنظر جوليو بالومبي 2008؛ و أنظر عدد Paléorient 40/2 للعام 2014 الذي يتناول ظاهرة ثقافة الكوراأراكس و إشكالياتها.
[46] أنظر شارل بورني 1992 ص 189.
[47] أنظر دريد سليم بولس 2014.
[48] أنظر أينور أوزفرات 2010.
[49] من أجل تنقل القبائل البدوية ضمن كوردستان و خارجها أنظر إزادي 1992ص 8992؛ و أنظر بوتس 2014.
[50] من أجل تفاصيل عن هذا الموضوع و المصادر، أنظر مهرداد إزادي 1992؛ أرشاك بولاديان 2013؛ بوتس 2014.